ولا يجوز أن يحيلهم على دليل خفيّ لا يستنبطه إلا أفراد الناس ، سواء كان سمعيّا أو عقليّا ، لأنه إذا تكلم بالكلام الذي يفهم منه معنى ، وأعاده مرات كثيرة ، وخاطب به الخلق كلهم ، وفيهم الذكي والبليد ، والفقيه وغير الفقيه ، وقد أوجب عليهم أن يتدبروا ذلك الخطاب ، ويعقلوه ويتفكروا فيه ، ويعتقدوا موجبه ، ثم أوجب أن لا يقصدوا بهذا الخطاب شيئا من ظاهره ، لأن هناك دليلا خفيّا يستنبطه أفراد الناس يدل على أنه لم يرد ظاهره ـ كان تدليسا أو تلبيسا ، وكان نقيض البيان ، وضد الهدى ، وهو بالألغاز والأحاجيّ أشبه منه بالهدى والبيان. فكيف إذا كانت دلالة ذلك الخطاب على ظاهره ، أقوى بدرجات كثيرة من دلالة ذلك الدليل الخفي على أن الظاهر غير مراد ، كيف إذا كان ذلك الخفي شبهة ليس لها حقيقة؟ ـ انتهى ـ.
الثاني ـ يتوهم كثير أن القول بالعلوّ والاستواء يلزم منهما القول بالتجسيم ، وقد رمى بذلك كثير من المحدّثين ، وممن رماهم بذلك الجلال الدواني في شرح العقائد العضدية حيث قال ـ عفا الله عنه ـ : وأكثر المجسمة هم الظاهريون المتبعون لظاهر الكتاب والسنة ، وأكثرهم المحدّثون. ولابن تيمية أبي العباس وأصحابه ميل عظيم إلى إثبات الجهة ، ومبالغة في القدح في نفيها. ورأيت في بعض تصانيفه أنه لا فرق عند بديهة العقل بين أن يقال : هو معدوم ، أو يقال : طلبته في جميع الأمكنة فلم أجده ، ونسب النافين إلى التعطيل. هذا مع علوّ كعبه في العلوم العقلية والنقلية ، كما يشهد به من تتبع تصانيفه.
ومحصل كلام بعضهم في بعض المواضع ، أن الشرع ورد بتخصيصه تعالى بجهة (الفوق) ، كما خصص الكعبة بكونها بيت الله تعالى ، ولذلك يتوجه إليها في الدعاء. ولا يخفى أنه ليس في هذا القدر غائلة أصلا ، لكن بعض أصحاب الحديث من المتأخرين لم يرض بهذا القول ، وأنكر كون (الفوق) قبلة الدعاء ، بل قال : قبلة الدعاء هو نفسه ، كما أن نفس الكعبة قبلة الصلاة ، وقد صرح بكونه جهة الله تعالى حقيقة من غير تجوّز انتهى كلام الدواني ـ.
وتعقبه غير واحد :
منهم : الشيخ إبراهيم الكوراني في حاشيته عليه المسماة (بمجلى المعاني) قال : إن ابن تيمية ليس قائلا بالتجسيم ، فقد صرح بأن الله تعالى ليس جسما ، في رسالة تكلم فيها على حديث النزول. وقال في رسالة أخرى : من قال إن الله تعالى مثل بدن الإنسان ، أو إن الله يماثل شيئا من المخلوقات فهو مفتر على الله سبحانه.