ما فوق العالم شيء من المخلوقات. فإن أردت الجهة الوجودية ، وجعلت الله تعالى محصورا في المخلوقات ، فهذا باطل ، وإن أردت بالجهة العدمية ، وأردت الله تعالى وحده فوق المخلوقات ، بائن عنها ، فهذا حق ، وليس في ذلك أن شيئا من المخلوقات حصره ، ولا أحاط به ، ولا علا عليه ، بل هو العالي عليها ، المحيط بها ، وقد قال تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) [الزمر : ٦٧] ، الآية ـ وقد ثبت في الصحيح (١) عن النبي صلىاللهعليهوسلم «أن الله عزوجل يقبض الأرض يوم القيامة ، ويطوي السموات بيمينه ، ثم يهزهن فيقول : أنا الملك ، أين ملوك الأرض»؟ وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما : ما السموات السبع ، والأرضون السبع ، وما فيهن ، وما بينهن ، في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم. وفي حديث آخر أنه يرميها كما يرمي الصبيان الكرة. فمن يكون جميع المخلوقات بالنسبة إلى قبضته تعالى ، إلى هذا الحقر والصغار ، كيف تحيط به وتحصره؟ ومن قال إن الله تعالى ليس في جهة ، قيل له : ما تريد بذلك؟ فإن أراد بذلك أنه ليس فوق السموات ربّ يعبد ، ولا على عرش إله ، ونبينا محمد صلىاللهعليهوسلم لم يعرج به إلى الله تعالى ، والأيدي لا ترفع إلى الله تعالى في الدعاء ، ولا تتوجه القلوب إليه ـ فهذا فرعوني معطل ، جاحد لرب العالمين. وإن كان يعتقد أنه مقرّ به فهو جاهل متناقص في كلامه. ومن هنا دخل أهل الحلول والاتحاد وقالوا : إن الله تعالى بذاته في كل مكان ، وإن وجود المخلوقات هو وجود الخالق. وإن قال : مرادي بقولي (ليس في جهة) أنه لا تحيط به المخلوقات فقد أصاب في هذا المعنى. وكذلك من قال إن الله تعالى متحيز أو قال ليس بمتحيز : إن أراد بقوله (متحيز) أن المخلوقات تحوزه وتحيط به فقد أخطأ ، وإن أراد به منحاز عن المخلوقات ، بائن عنها ، عال عليها ، فقد أصاب. ومن قال : (ليس بمتحيز) ، إن أراد المخلوقات لا تحوزه فقد أصاب ، وإن أراد ليس ببائن عنها ، بل هو لا داخل فيها ، ولا خارج عنها ، فقد أخطأ. والناس في هذا الباب ثلاثة أصناف : أهل الحلول والاتحاد ، وأهل النفي والجحود ، وأهل الإيمان والتوحيد والسنة.
__________________
(١) أخرجه البخاري في : الرقاق ، ٤٤ ـ باب يقبض الله الأرض حديث ٢٠٣٩ ونصه : عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم قال : «يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه. ثم يقول. أنا الملك. أين ملوك الأرض؟».
وأخرجه مسلم في : صفات المنافقين وأحكامهم ، حديث ٢٣.