مباينتهما للمخلوقات أعظم من مباينة كل مخلوق لكل مخلوق؟ والجاهل يضل بأن يقول : العرب إنما وضعوا لفظ (الاستواء) لاستواء الإنسان على السرير أو الفلك ، أو استواء السفينة على الجوديّ ، ولنحو ذلك من استواء بعض المخلوقات. فهو كما يقول القائل : إنما وضعوا لفظ السمع والبصر والكلام لما يكون محله حدقة وأجفانا ، وأصمخة وآذانا ، وشفتين ولسانا ، وإنما وضعوا لفظ العلم والرحمة والإرادة لما يكون محله مضغة لحم وفؤاد ، وهذا كله جهل منه. فإن العرب إنما وضعت للإنسان ما أضافت إليه ، فإذا قالت سمع العبد وبصره وكلامه وعلمه وإرادته ورحمته مما يختص به ، يتناول ذلك خصائص العبد. وإذا قيل سمع الله وبصره وكلامه وعلمه وإرادته ورحمته ، كان هذا متناولا لما يختص به الرب ، لا يدخل في ذلك شيء من خصائص المخلوقين. وكذلك إذا قيل استواء الرب ، فهذا الاستواء المضاف إلى الله كالعلم والسمع والبصر المضاف إلى الله. لا يجوز أن يتناول ذلك شيئا من خصائص المخلوقين وهؤلاء الجهال يمثلون في ابتداء فهمهم صفات الخالق بصفات المخلوق ، ثم ينفون ذلك ويعطلونه ، فلا يفهمون من ذلك إلا ما يختص بالمخلوق ، وينفون مضمون ذلك ، فيكونون قد جحدوا ما يستحقه الرب من خصائصه وصفاته ، وألحدوا في أسماء الله تعالى وآياته ، وخرجوا عن القياس العقلي ، والنص الشرعي ، فلا يبقى بأيديهم لا معقول صريح ، ولا منقول صحيح. ثم لا بد لهم من إثبات بعض ما يثبته أهل الإثبات من الأسماء والصفات : فإذا أثبتوا البعض ، ونفوا البعض ، قيل لهم : ما الفرق بين ما أثبتموه وما نفيتموه؟ ولم كان هذا حقيقة ، ولم يكن هذا حقيقة؟ لم يكن لهم جواب أصلا ، وظهر بذلك جهلهم وضلالهم شرعا وعقلا. ونظائر هذا كثيرة ، فمن ظن أن أسماء الله تعالى وأسماء صفاته ، إذا كانت حقيقة لزم أن يكون مماثلا للمخلوقين ، وأن تكون صفاته مماثلة لصفاتهم ، كان من أجهل الناس ، وكان أول كلامه سفسطة ، وآخره زندقة لأنه يقتضي نفي جميع أسماء الله وصفاته ، وهذا هو غاية الزندقة والإلحاد. وإن فرق بين صفة وصفة ، مع تساويهما في أسباب الحقيقة والمجاز ، كان متناقضا في قوله ، متهافتا في مذهبه مشابها لمن آمن ببعض الكتاب ، وكفر ببعض.
وإذا تأمل اللبيب الفاضل هذه الأمور ، تبين له أن مذهب السلف والأئمة في غاية الاستقامة والسداد والصحة والاطّراد ، وأنه مقتضى المعقول الصريح ، والمنقول الصحيح ، وأن من خالفه ، كان مع تناقض قوله المختلف الذي يؤفك عنه من أفك خارجا عن موجب العقل والسمع ، مخالفا للفطرة والشرع ، والله يتم نعمته علينا وعلى سائر إخواننا المسلمين المؤمنين ، ويجمع لنا ولهم خير الدنيا والآخرة ـ انتهى ـ.