بالحقائق كما هي عليها في الواقع. وقد ذكر أكابر الفلاسفة أنّه من ثمرات تجرد النفس ، ولكن ذكرنا أنّ ذلك لا كليّة فيه ، وتقدم أنّ العلم بحقائق الموجودات مطلقا من الغيب الذي يختص به جلّ جلاله أو من يفاض عليه من عنده عزوجل بل إنّ إفاضة جميع العلوم لا بد أن تنتهي إليه ، فيصح نفي العلم عن غيره عزوجل بقول مطلق ويأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام فيه.
الثاني عشر : قوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) مشتمل على الحكم وعلته والأول عبارة عن الأمر بالتقوى التي هي إتيان الواجبات وترك المحرّمات.
والثاني : هو أنّ الحاكم بذلك عالم بكلّ شيء من الجزئيات والكليات ويجازي على ذلك ، ومن كان هكذا وجب بحكم العقل أن يتّقى ، فتقوى الله واجبة إما لذلك ، أو لأنّ دفع الضرر الأخروي واجب عقلا.
ومن هذه الآية الشريفة بقرينة غيرها من الآيات نستفيد قاعدة جليلة وهي : أنّ كلّ ما يصدر من الذات المقدسة التي لا تناهي في أيّ جهة من جهاتها بالنسبة إلى جميع مخلوقاته فضلا عن أجلّها لا يكون إلا عن علم وحكمة وخبرة ولطف ورحمة وبصيرة ، وإحاطة بالجزئيات حدوثها وبقائها وفنائها وما تصير إليه بعد الفناء وصورها وتبدلها ، وأطوار الوجود وتغييراتها ـ فهو تعالى عليم حكيم خبير بصير لطيف رقيب يعلم جميع الموجودات من ذرة التراب إلى أشرف فرد من ذوي العقول والألباب علما إحاطيا ، قال تعالى : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك ـ ١٤] ، وعلمه بما سواه لا يقبل التغيير والتبديل لأنّه عين الذات وهو غير متناه أيضا فهو قبل الجعل ومع الجعل وبعده ومع التغيير والتبديل وما يصير إليه كلّ ذلك في عرض واحد بالنسبة إلى علمه الفعلي والسبق واللحوق والتقدم والتأخر إنّما هو في المعلوم بالعرض في سلسلة الزمان لا في العلم ولا في المعلوم بالذات. ولا تتصوّر الكلية والجزئية في هذا النحو من العلم المختص به جلّت عظمته وإنّ إطلاقهما عليه باعتبار المعلوم بالعرض لا في مرتبة ذات العلم ولا المعلوم