فالنحل إذا نوعان : جبلية تسكن في الجبال والفيافي لا يتعهدها أحد من الناس. وأهلية تأوي إلى البيوت وتتعهد في الخلايا. ومن بديع الإلهام فيها اتخاذها البيوت قبل المرعى. فهي تتخذها أوّلا. فإذا استقر لها بيت خرجت منه ، فرعت. وأكلت من الثمرات. ثم أوت إلى بيوتها. وقد أشار تعالى إلى ذلك بقوله : (ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) أي من كل ثمرة تشتهيها ، حلوها ومرها. فالعموم عرفيّ ، أو لفظ (كل) للتكثير. أو هو عام مخصوص بالعادة. ولو أبقي الأمر على ظاهره لجاز. لأنه لا يلزم من الأمر بالأكل من جميع الثمرات ، الأكل منها. لأن الأمر للتخلية والإباحة.
لطيفة :
إنما أوثر (من) في قوله تعالى : (مِنَ الْجِبالِ) إلخ ، على (في) دلالة على معنى التبعيض. وأن لا تبنى بيوتها في كل جبل وكل شجر وكل ما يعرش ، ولا في كل مكان منها. نبه عليه الزمخشري :
قال الناصر : ويتزين هذا المعنى الذي نبه عليه في تبعيض (من) المتعلقة باتخاذ البيوت. بإطلاق الأكل. كأنه تعالى وكل الأكل إلى شهوتها واختيارها. فلم يحجر عليها فيه ، وإن حجر عليها في البيوت وأمرت باتخاذها في بعض المواضع دون بعض. لأن مصلحة الآكل حاصلة على الإطلاق باستمرار مشتهاها منه. وأما البيوت فلا تحصل مصلحتها في كل موضع. ولهذا المعنى دخلت (ثم) لتفاوت الأمر بين الحجر عليها في اتخاذ البيوت ، والإطلاق لها في تناول الثمرات. كما تقول راع الحلال فيما تأكله ، ثم كل أي شيء شئت. فتوسط (ثم) لتفاوت الحجر والإطلاق. فسبحان اللطيف الخبير.
وقوله تعالى : (فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً) أي الطرق التي ألهمك وأفهمك في عمل العسل. فالسبل مجاز عن طرق العمل وأنواعها أو على حقيقتها. أي إذا أكلت الثمار في المواضع النائية فاسلكي راجعة إلى بيوتك. سبل ربك. لا تتوعّر عليك ولا تضلين فيها. و (ذللا) جمع ذلول ، حال من (السبل) أي مذلّلة ذللها الله لك وسهلها. فهي تسلك من هذا الجوّ العظيم. والبراري الشاسعة والأودية والجبال الشاهقة. ثم تعود كل واحدة منها إلى بيتها لا تحيد عنه يمنة ولا يسرة. وقوله تعالى (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ) استئناف ، عدل به عن خطاب النحل لبيان ما يظهر منها من عجيب صنعه تعالى ، تعديدا للنعم ، وتنبيها على العبر ، وإرشادا إلى الآيات العظيمة من هذا الحيوان الضعيف. وسمي العسل شرابا ، لأنه يشرب مع الماء وغيره (مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ)