وذكر الإمام الغزالي أيضا في كتاب (الحكمة في خلق المخلوقات) : أن الله تعالى جعل للنحل رئيسا تتبعه وتهتدي به فيما تناله من أقواتها. فإن ظهر مع الرئيس الذي تتبعه رئيس آخر من جنسه ، قتل أحدهما الآخر. وذلك لمصلحة ظاهرة وهو خوف الافتراق. لأنهما إذا كانا أميرين ، وسلك كل واحد منهما فجّا ، افترق النحل خلفهما. ثم إنها ألهمت أن ترعى رطوبات من على الأزهار. فيستحيل في أجوافها عسلا. فعلم من هذا التسخير ما فيه من مصالح العباد ، من شراب فيه شفاء للناس. كما أخبر سبحانه وتعالى. وفيه غذاء وملاذ العباد. وفيه من أقوات فضلات عظيمة جعلت لمنافع بني آدم. فهي مثل ما يفضل من اللبن الذي خلق لمصالح أولاد البهائم وأقواتها. وما فضل من ذلك ففيه من البركة والكثرة ما ينتفع به الناس. ثم انظر ما تحمله النحل من الشمع في أرجلها ، لتوعي فيه العسل وتحفظه. فلا تكاد تجد وعاء أحفظ للعسل من الشمع في الأجناح. فانظر في هذه الذبابة ، هل في علمها وقدرتها جمع الشمع مع العسل؟ أو عندها من المعرفة بحيث رتبت حفظ العسل مدة طويلة باستقراره في الشمع وصيانته في الجبال والشجر في المواضع التي تحفظه ولا يفسد فيها! ثم انظر لخروجها نهارا لرعيها ورجوعها عشية إلى أماكنها وقد حملت ما يقوم بقوتها ويفضل عنها ، ولها في ترتيب بيوتها من الحكمة في بنائها حافظ لما تلقيه من أجوافها من العسل ، ولها جهة أخرى تجعل فيها برازها مباعدا عن مواضع العسل. وفيها غير هذا مما انفرد الله بعلمه.
قال أبو السعود : ولما ذكر سبحانه من عجائب أحوال ما ذكر من الماء والنبات والأنعام والنحل. أشار إلى بعض عجائب أحوال البشر من أول عمره إلى آخره وتطوراته فيما بين ذلك. وقد ضبطوا مراتب العمر في أربع : الأولى سنّ النشوء والنماء. والثانية سن الوقوف وهي سن الشباب. والثالثة سن الانحطاط القليل وهي سن الكهولة. والرابعة سن الانحطاط الكبير وهي سنّ الشيخوخة ، فقال سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :
(وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٧٠) وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ) (٧١)
(وَاللهُ خَلَقَكُمْ) أي أنشأكم من العدم (ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) أي أضعفه وأردئه وهو الهرم. وقوله تعالى : (لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً) اللام