(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها ، وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ) قرأ الجمهور (جدد) بضم الجيم وفتح الدال ، جمع (جدة) بالضم ، وهي الطريقة من (جدّه) إذا قطعه ، أي ومن الجبال ذوو جدد ، أي طرائق بيض وحمر. وإنما قدر المضاف ، لأن الجبال ليست نفس الطرائق. و (غرابيب) جمع (غربيب) وهو الأسود المتناهي في السواد ، يقال : أسود غربيب ، كما يقال : أحمر قان ، وأصفر فاقع ، تأكيدا. وإما قدم هنا ، ومن حق التوكيد أن يتبع المؤكد للمبالغة ورأى بعضهم أنه مقدم من تأخير ، ذهابا إلى جواز تقديم الصفة على موصوفها.
القول في تأويل قوله تعالى :
(وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) (٢٨)
(وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ) أي اختلافا كذلك ، أي كاختلاف الثمرات والجبال. وقوله تعالى (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) تكملة لقوله تعالى : (إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) [فاطر : ١٨] ، بتعيين من يخشاه عزوجل من الناس ، بعد بيان اختلاف طبقاتهم ، وتباين مراتبهم ، أما في الأوصاف المعنوية فبطريق التمثيل. وأما في الأوصاف الصورية فبطريق التصريح ، توفية لكل واحدة منهما حقها اللائق بها من البيان. أي إنما يخشاه تعالى بالغيب ، العالمون به عزوجل ، وبما يليق به من صفاته الجليلة وأفعاله الجميلة. لما أن مدار الخشية معرفة المخشيّ والعلم بشئونه ، فمن كان أعلم به تعالى ، كان أخشى منه عزوجل. كما قال عليه الصلاة والسلام : «أنا أخشاكم لله وأتقاكم له» (١). ولذلك عقب بذكر أفعاله الدالة على كمال قدرته. وحيث كان الكفرة بمعزل من هذه المعرفة ، امتنع إنذارهم بالكلية. أفاده أبو السعود.
وقال القاشانيّ : أي ما يخشى الله إلا العلماء العرفاء به ، لأن الخشية ليست هي خوف العقاب ، بل هيئة في القلب خشوعية انكسارية عند تصوّر وصف العظمة واستحضاره لها. فمن لم يتصوّر عظمته لم يمكنه خشيته. ومن تجلى الله له بعظمته ، خشيه حق خشيته. وبين الحضور التصوّريّ الحاصل للعالم غير العارف ،
__________________
(١) أخرجه البخاري في : النكاح ، ١ ـ باب الترغيب في النكاح ، حديث رقم ٢٠٩٩ عن أنس بن مالك ، قطعه من حديث طويل.