وإنما ذكرهما سبحانه في أوّل السورة توطئة لما سيذكره من قصصهم وما يتعلّق بولادة عيسى عليهالسلام.
ومن سياق الآية المباركة يستفاد أن التوراة والإنجيل نزلتا جملة واحدة ، بخلاف القرآن فإنه نزل تدريجيا ، حيث عبّر تعالى : (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) ، وقال تعالى : (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) ، كما مرّ سابقا.
إن قيل : ورد نفس التعبير في قوله تعالى : (وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) ، فيدلّ على نزول القرآن جمعا ودفعة ، فيتحقّق التنافي بين الآيتين.
قلنا : لو كان النزول والتنزيل مرّة واحدة حقيقة فالإشكال وارد ، ولكن للقرآن نزولات متعدّدة كما تقدّم سابقا في قوله تعالى : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) [سورة البقرة ، الآية : ١٨٥] ، فمرّة نزل نجوما ومرارا نزل دفعة ، وإنما ذكره هنا تجليلا وتعظيما لمقام القرآن بالنسبة إلى سائر الكتب السماويّة.
قوله تعالى : (وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ).
الفرقان : ما يفرق بين الحقّ والباطل ، وقد استعملت هذه المادة في القرآن الكريم كثيرا ، وجميعها تدلّ على تلك المعارف الإلهية والأصول الحقّة النظامية ، التي تبيّن وظيفة العبد وما هو مطلوب في مقام العبودية وإقامة العدل والحقّ ، فيشمل الكتب الإلهية وأنبياء الله تعالى والأحكام الإلهية التي تعيّن وظائف العبد ، كما يشمل العقل وكلّ أمر محكم ، ويدلّ على ذلك آيات متعدّدة ، منها قوله تعالى : (وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) [سورة الأنفال ، الآية : ٤١] ، وقال تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ) [سورة الأنبياء ، الآية : ٤٨] ، وقال تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) [سورة الفرقان ، الآية : ١].
والمراد به هنا القرآن الكريم ، فهو باعتبار وجوده الجمعي يسمّى قرآنا ، وباعتبار تفرقته بين الحقّ والباطل يسمّى فرقانا ، وباعتبار إرشاداته يكون نورا ، وباعتبار كونه أساسا للعمل والحكم بالعدل يسمّى ميزانا ، وتختلف أسماؤه الشريفة باختلاف صفاته المباركة.