بالضمائر وما في القلوب.
والآية الشريفة على إجمالها لا تبيّن سبب الاصطفاء ، ولكن يمكن استفادة ذلك من آيات اخرى ، فإن أسبابه كثيرة ، بعضها اختياريّة وبعضها الآخر غير اختياريّة ، وأهمّ تلك الأسباب كمال الإيمان بالله تعالى ، الذي هو جذبة معنوية غيبيّة ، يجذب به الله تعالى عباده إلى الكمال المطلق ، وآخر مقامات الجذبة الإلهيّة هو الاصطفاء ، ومن العجيب أن كلّ اصطفاء تحقّق في فرد وقع ضده في فرد آخر الذي هو مظهر الفساد والشر ، كآدم وإبليس ، وإبراهيم ونمرود ، وموسى وفرعون إلى غير ذلك ، وبهذا التزاحم والتنافر يتحقّق الاختيار.
ومن أسباب الاصطفاء أيضا المجاهدات في سبيل تكميل النفوس الإنسانيّة والتخلّق بأخلاق الله تعالى والتحلّي بالإنسانيّة الكاملة ، حتّى يصل إلى مقام الاصطفاء ، فهو آخر مقامات الإنسانيّة الكاملة.
ومن أسبابه الصدق والخلوص في العبوديّة والإخلاص لله تعالى ونهاية الانقطاع إليه ، بحيث يصير الإنسان كالمرآة الأتم لجلال الله وجماله ، وغاية الصبر في الدعوة إليه عزوجل بما يتحمّله من المصائب والمتاعب في سبيل تلك الدعوة ، فيكون الاصطفاء مقارنا للابتلاء والصبر.
ومن الأسباب الدخول في مرتبة حبّ الله تعالى له بالعمل بما أنزله عزوجل والصبر في جنبه والإحسان إليه والتّقوى والجهاد في سبيله وغير ذلك ، فإن اصطفاء الله تعالى فرع محبّته عزوجل.
ومن آثار الاصطفاء هو تشريع الشريعة على يديه وتأسيس الدين الإلهي واقتداء سائر الأنبياء به ، كما في إبراهيم عليهالسلام ، فإنه مبدأ التشريع وآخره.
وبالجملة : فإن الاصطفاء لبعض العباد يرجع إلى أمر غيبي ، لا يعلمه غيره عزوجل ، ولكن ذلك لا يكون على نحو العليّة التامّة المنحصرة ، بل الاتّصاف بالصفات الكاملة الحقيقيّة له دخل في الاصطفاء ، فهو مركّب من أمرين اختياري وغيره ، ومع فقد كلّ واحد منهما لا منشأ له.