ثم إن الاصطفاء لا يختصّ بالإنسان ، بل قد يقع بالنسبة إلى غيره أيضا ، وإن كنا لا نعلم ذلك. ويشهد لذلك بعض الأحاديث بأن العقل هو أوّل من اصطفاه الله تعالى ، حيث قال : «بك أثيب وبك أعاقب» ، فهو أوّل من اصطفاه الله تعالى وآخره في قوسي الصعود والنزول ، فيكون المصطفى (بالفتح) حقيقة واحدة لها مراتب متفاوتة.
نعم ، بناء على ما نسب إلى بعض أعاظم الفلاسفة المتألّهين وبعض أكابر العرفاء الشامخين من وحدة الوجود والموجود ، فالمصطفي (بالكسر) والمصطفى (بالفتح) واحد لكنهما مختلفان بالاعتبار ، ولهم في ذلك كلمات نظما ونثرا ، والتفصيل يطلب من محلّه.
وكيف كان ، فالاصطفاء منشأ الخيرات والبركات في هذا العالم ، ويكون شأن من اصطفاه الله تعالى في هذه الدنيا شأن ربان السفينة في البحر المتلاطم المحفوف بالمخاطر ، والناس في هذه السفينة حيارى قد أدهشهم الخوف ، فلا بد لهذا الربان من علم إلهي بكيفية السير والسلوك ، كما هو معلوم في السفر من الخلق إلى الحقّ.
قوله تعالى : (إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً).
بيان لأحد أسباب الاصطفاء وتقرير لكيفيّته. والنذر هو إيجاب شيء على النفس والالتزام به ، والإنذار الإخبار بالتخويف ، ويمكن فرض الجامع بينهما وهو إعلان التخويف على المخالفة ، سواء كان المنشأ حاصلا من نفس الإنسان على نفسه أم من الله تعالى ابتداء.
ومحرّرا من التحرير ، وهو الخلوص والتخلّص عن الوثائق ، كتحرير العبد ، أي خلوصه عن الرقيّة ، وتحرير الكتاب هو تخليصه عن الفساد والاضطراب ، أو إطلاق المعاني عن قيد الذهن والفكر ، ويقال لكلّ ما خلص أنه حر :
تمسّك إن ظفرت بودّ حر |
|
فإن الحرّ في الدنيا قليل |