الحقّ والباطل ، والهداية والغواية ، كما يصحّ أن يكون ذلك وصفا بحال المتعلّق ، أي الفارق بين المؤمن وغيره ، فيستفيد كلّ منهم بقدر لياقته واستعداده ، قال تعالى : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها) [سورة الرعد ، الآية : ١٧].
السابع : إنما كرّر سبحانه وتعالى مادة (ن ز ل) في الآية المباركة ثلاث مرات ، للاهتمام التامّ بالمنزل وكثرة العناية به ، والمراد بالكتاب في أوّل الآية المباركة هو القرآن الذي هو بين أيدينا ، بقرينة قوله تعالى : (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) ، والمراد من التنزيل التدريجي نجوما متفرّقة حسب تعدّد الخصوصيات ، فلاحظ سبحانه وتعالى باعتبار وجوده الجمعي بعد تمامية مراتب التنزيل وذكره مستقلا.
وأما التوراة والإنجيل فيستظهر من الآية الشريفة : (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) أنهما نزلا دفعة وهو كذلك ، لأن الإنجيل مقتبس من التوراة ، وهي نزلت دفعة.
وأما قوله تعالى : (وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) ، فهو عبارة عن المحكمات الفارقة بين الحقّ والباطل ، التي تكون في ضمن القرآن ، والتكرار ثانيا لكثرة أهميتها وجعل إنزالها إنزالا دفعيا ثانيا مضافا إلى التنزيل التدريجي ، ولا بأس بجعل الاختلاف في التعبير من باب التفنّن في الكلام الذي هو من جهات الفصاحة والبلاغة.
ويمكن أن يوجّه بوجه آخر أدقّ وألطف ، وهو أنه إذا لوحظ الوحي بالنسبة إلى الموحي وقلب الموحى إليه ، فهو نزول مطلقا ، لتنزههما عن الزمان والزمانيات ، ولكن إذا لوحظ بحسب هذا العالم المادي الزماني المتدرّج الوجود ، فهو تنزيل ، فيكون كلّ منهما بحسب وعائه وعالمه ، وبذلك يجمع بين جميع الآيات السابقة من غير محذور في البين.
الثامن : يستفاد من قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) تقدير جميع الأمور المتعلّقة بالإنسان ، فيكون كفر الكافر وإيمان المؤمن غير خارجين عن تقدير الله تعالى على نحو الاقتضاء ، ويكون الكلام تعميما بعد التخصيص ، وقد ذكر التقدير في الإنسان إتماما للحجّة ، وتثبيتا لإيمان المؤمن ،