التقدير ، فإن زكريا بعد ما شاهد من مريم الصدّيقة عليهاالسلام من عجائب الرزق والكرامات طلب من الله أن يرزقه ذرّية طيبة ، يكون وليا مرضيا. هذا ما يقتضي التدبّر في مجموع الآيات النازلة في هذين النبيين الصالحين عليهماالسلام في المقام ، وفي سورة مريم.
قوله تعالى : (قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ).
جملة مستأنفة تدلّ على التعجّب ، ففيها استفهام عن حقيقة الحال ، وطلب لتفهّم خصوصيات الإفاضة والإنعام ، مع الاشتياق إلى المناجاة مع الحبيب والتلذّذ بالحديث معه ، وهو من أعظم الابتهاج للنفس ، وليس فيها دلالة على أن الاستفهام كان لأجل الاستعظام والاستبعاد ، كيف وهو المبشّر بما طلبه ، وإن الله سيرزقه الغلام الذي تجتمع فيه جميع الصفات الحميدة التي شاهدها في مريم الصدّيقة ، وهو على يقين بقدرة الله تعالى على ذلك.
وقد ذكر زكريا عليهالسلام وصفين في المقام ، هما المنشأ في التعجّب والاستعلام ، وكان لهما أبلغ الأثر في حزنه وتأثّره مع علمه بأن الأمور لا تجري إلا بأسبابها كما اقتضته الحكمة الإلهيّة ، وهذا اعتراف من زكريا بحسن نظام هذا العالم وما عليه من التناسل بين بني آدم ، ولكن مع ذلك يعترف بأن الإرادة القهّارة الربوبيّة فوق جميع ذلك ، والكلّ مسخّر تحت تلك الإرادة ، فيرجع المعنى إلى أن طلب الولد خلاف النظم الطبيعي من مثله وعن زوجة عاقر ، لو لا قدرتك ورحمتك ومشيئتك القاهرة ، وهذان الوصفان قد ذكرهما في ضمن الدعاء في موضع آخر ، فقال تعالى حكاية عنه : (رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا* وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) [سورة مريم ، الآية : ٤ ـ ٥].
والغلام الطار الشارب أو الابن في أوّل نبت شاربه. ومادة (غلم) تدلّ على شدّة شهوة النكاح وهيجانها ، كما يظهر من جملة استعمالاتها ، ففي الحديث : «خير النساء الغلمة على زوجها العفيفة بفرجها» ، وقد ورد هذا اللفظ في القرآن مفردا