بحث عرفاني :
تقدّم أن حقيقة الإيمان بالله جلّت عظمته إنما هي ارتباط خاص بين العبد وبين الله تعالى الذي له من الصفات الجماليّة والكماليّة مالا يمكن أن يحدّها حدّ ، فله القدرة والملك والتدبير والربوبيّة والرأفة والكمال والجلال ، والعالم كلّه مظاهر جلاله وجماله وأسمائه وصفاته ، وله التأثير التامّ في نظام العالم.
والإيمان ارتباط بين عالم الشهادة وعالم الغيب ارتباطا اختياريّا ، وهذا الارتباط الخاص الاختياري وإن كان في نظرنا أمرا عرضيّا قائما بالغير ، لكنه في الواقع جوهر نوراني يضيء لأهل السماء ، كما تضيء النجوم لأهل الأرض ، وهو الركن الشديد الذي يعتمد عليه عند الشدائد والأهوال وفي مختلف الأحوال ، وهذا الارتباط قد يقوى وقد يضعف ، تبعا لدرجات الإيمان ، ويمكن أن يصل إلى حدّ الجذبة ، فيصل العبد إلى مقام الاصطفاء وهو التجاذب التامّ من الطرفين ، فالجذبة من ناحية العبد هي العبوديّة المحضة والانقطاع إلى ربّ العزّة بكلّ همة ، وجذبة الله ما هو متناه من كلّ جهة ، فإنه يحظى من عطاء الله تعالى ولطفه غير المتناهي.
وفي الاصطفاء يظهر سرّ العبوديّة والامتحان الإلهي ، وفيه تبدو الأخلاق الكاملة الربانيّة ، وهو مظهر الكمالات والتحليات ، والمصطفى (بالفتح) هو الإنسان الكامل الذي يكون قطب رحى الوجود ، يتشرّف أهل الأرض بوجوده ، ويترقب أهل السماء لقاءه ، فهو الأمان من كلّ شرّ ، وبه يدفع كلّ بلية وعظيمة ، وهو الذي باهى الله تعالى الملائكة بخلقه وإيجاده ، وهو عرش الرحمن ، وهو واسطة الفيض الإلهي على سائر الخلق.
وتختلف درجات الاصطفاء حسب اختلاف درجات الفضل ، ورأس كلّ مصطفى ورئيسهم أشرف الكائنات على الإطلاق وسيد الخلائق ، مجمع كلّ فضيلة ومكرمة ، ومظهر كلّ فيض ورحمه ، خاتم الأنبياء الذي وصل إلى ما لم يصل إليه أحد من العالمين في الأخلاق الساميّة والكمالات الإنسانيّة ، حتّى وصل إلى مقام