قوله تعالى : (يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ).
تكرار النداء لبيان عظمة المنادي ، وللإشارة إلى تتابع النداء على مريم وحثّها على الاستماع والإصغاء ، والتحبّب إليها ، والاهتمام بشأنها.
والقنوت : هو لزوم الطاعة والخضوع ، وتقدّم تفصيل معناه في قوله تعالى : (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٣٨]. والسجود والركوع معروفان ، والجميع كناية عن لزوم الطاعة والخضوع والخشوع في العبادة وعدم تركها في حال ، ومراعاة وظيفة العبوديّة.
ويمكن أن يكون المراد من الركوع مع الراكعين هو لزوم الصلاة والمحافظة عليها ، ولعلّ النكتة في التعبير بالركوع مع الراكعين هي الأمر باتباع شريعة موسى ومتابعة زكريا قبل ظهور شريعة ابنها عيسى عليهالسلام ، حيث إنها كانت في كفالته ، مع أن الظاهر أن الصلاة كانت واحدة في الشريعتين ، فإنها أوّل ما نطق به عيسى عليهالسلام حينما وضعته امه ، قال تعالى حكاية عنه : (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا) [سورة مريم ، الآية : ٣١].
وكيف كان ، فهي تابعة في جهات عبادتها لشخص آخر ، وهو إبراهيم أو موسى أو زكريا ، ولا استقلال لها بوجه حتّى يتوهّم أنها أصل من الأصول ، ولا ينافي ذلك نداءها من قبل الملائكة بلزوم الطاعة والعبادة والخضوع ، فإن كلّ نفس آمنت بالله تعالى ايمانا حقيقيّا واتّصفت بالتقوى واليقين يمكن أن تحدثها الملائكة ، وقد ورد في جملة من الاخبار : «ان المؤمن محدث» ، ولا ريب أن حديث الملائكة كاشف عن كمال الإيمان ، كما أن وحي الشيطان كاشف عن كمال الشقاء والحرمان ، قال تعالى : (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ) [سورة الأنعام ، الآية : ١٢١].
وربما يكون الوجه في الأمر بالركوع مع الراكعين هو لزوم الصلاة ، التي هي معروفة عند الخواص ، التي تكون خالصة عن الشوائب وكلّ ما هو خارج عنها عندهم.