الكتاب ، وفيها الدلالة على أن ذلك وحي من الله تعالى.
وإطلاق النفي يشمل نفي الحضور الجسماني والروحاني ، ومنه يظهر ضعف ما ذكره بعض من أن الأرواح خلقت قبل الأجساد ، وأنها كانت عالمة بكلّ شيء قبل التعلّق بالأجساد ، فلما تعلّقت بها سلبت عنها علومها وانحصرت معرفتها بما يستفيده الإنسان بالجهد ، ويستندون في ذلك إلى بعض الأحاديث ، وسيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام فيه ، ونظير المقام قوله تعالى : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ) [سورة القصص ، الآية : ٤٦] ، وقوله تعالى : (وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ) [سورة القصص ، الآية : ٤٤] ، والجميع يدلّ على انحصار علم رسول الله صلىاللهعليهوآله بالأمور الغيبيّة بالوحي السماوي فقط.
والآية الشريفة تدلّ أيضا على كمال العناية بشأن مريم والاهتمام بها وكرامتها على الله تعالى وعظم منزلتها عند سدنة بيت المقدس ، ولعلّ السرّ في ذلك أنهم عرفوا بوجه من الوجوه أن لها شأنا من الشأن وتكون منشأ لحادثة عظيمة ، وهي الولادة من غير أب.
وكيف كان ، فالآية المباركة تدلّ على قداسة ام المسيح وتبطل الشبهات التي لم تتورّع اليهود أن يلصقوها بمريم ، كما أنها تدلّ على إبطال مزاعم النصارى في مريم ، ببيان كاف وشرح واف تقبله العقول السليمة والأذهان المستقيمة ، وإخراجها عن حدّ الإفراط والغلو ومنحها أرفع المقامات ، وهو مقام التقوى والخضوع لربّ العالمين والعبوديّة لله تعالى.
ومن عجيب الأمر أن امراة عمران نذرت ما في بطنها محرّرا بخلوص ، وحزنت عند ما وضعت المولود أنثى ، لاحتياجها إلى رعاية الام أكثر من غيرها ، ولكن الله تعالى تقبّلها وجعل قلوب سدنة بيت المقدس تهوى إليها ، فتشاجر القوم وتنازعوا في كفالتها وحضانتها وحفظها وحراستها ، ولا بد من الاعتبار والتوكّل عليه تعالى ، وجعل هذه القصة نصب الأعين ، فكلّ من أخلص في عمله لله تعالى يراعي الله عزوجل شأنه ويوكل قوما من عباده لحفظه ورعايته ، أنه على كلّ شيء قدير.