قوله تعالى : (وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ).
المقرّبون هم الّذين استقاموا على الطريقة وأصابوا الحقّ والحقيقة ، ومشوا على بساط القرب بإقدام حافية عن جميع الأوهام ، وتخلّوا عن تمام الجهات الإمكانية ، وطرحوا جميع إضافاتهم النفسانيّة ، ولا يشاءون إلا ما شاء الله تعالى ، فأدركوا لذّة البقاء بالله تعالى في الفناء في مرضاة الله ، طينتهم حبّ الواحد الأحد ، وصورتهم الشوارق النازلة من الله الصمد ، فقد وردوا الساحة الربوبيّة بهممهم العالية ، وتصرّفوا في نظام التكوين بإذن من الحي القيوم الحكيم ، وقد وصف الله تعالى الأنبياء بهذا الوصف لأنهم سبقوا سائر أفراد الإنسان إلى هذه الحقيقة ، كما يظهر من قوله تعالى في شأن المتقرّب إليه : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ* أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) [سورة الواقعة ، الآية : ١١].
والمراد القرب إلى الله تعالى الذي هو غاية سعي الإنسان والتقرّب إلى المعبود ، ولذا يكون قرين المعبوديّة لله تعالى ؛ والقرب إما أن يحصل من فعل الفاعل المختار ، كتقرّب الأنبياء والأولياء ، وإما أن يكون من مجرّد العطية المحضة والمنحة الإلهيّة ، لمن يشاء ، كقرب بعض الملائكة ، وقد جمعهما الله تعالى في قوله عزوجل : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) [سورة النساء ، الآية : ١٧٢].
ثم إنّ كلّ وجيه في الدنيا والآخرة هو مقرّب عند الله تعالى ، وكذا بالعكس إن لوحظ ذلك من حيث الوصف بحال الذات ، وأما إذا لوحظ من حيث الوصف بحال المتعلّق ، أي اعتقاد الناس ، فالأمر ليس كذلك ، فكم من مقرّب عند الله تعالى لا يعرفه أحد. ولكن المستفاد من سياق الآية الشريفة هو المعنى الأوّل ، فيكون العطف تفسيريّا.
قوله تعالى : (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً).
مادة (مهد) تأتي بمعنى البساط والفراش والراحة ، ويسمّى مضجع الطفل أو الموضع الذي يهيأ له مهدا لكونه محل ذلك كلّه للطفل ، كما تسمّى الأرض مهادا