العادة وقانون الأسباب ، نظير الأفعال الصادرة عن النفس الإنسانيّة ، فإنها تارة تتوقّف على تهيئة أسباب خاصة ، واخرى لا تكون كذلك ، كتصور الصور الذهنيّة. واختلاف التعبير في الآيات الشريفة يرجع إلى شيء واحد ، والجميع من أسباب الفعل وبيان القدرة الكاملة.
وفي المقام إنما نفى سبحانه وتعالى السبب الظاهري دون السبب الواقعي كما أنه لم ينف السبب رأسا ، فتكون مجاري قضائه وأسباب الطبيعة مسخّرة تحت إرادته وإن لم تكونا متّحدتين من كلّ جهة ، ولم تفارق إحداهما الاخرى.
والآية تدلّ على أن خلق عيسى عليهالسلام كان إبداعيا من غير توسّط سبب ظاهري ، ولذا كان على خلاف العادة ، ولكن كلّ حادث محتاج إلى علّة توجده ، بلا فرق بين أن يكون من العلويّات أو السفليّات أو المعجزات وخوارق العادات ، لأن الموجود إما واجب بالذات ، أو واجب بالغير ، ولا ثالث في البين ، والثاني ممكن محتاج إلى العلّة لا محالة وإلا لزم الخلف المحال. فجميع المعجزات وخوارق العادات لها أسباب لكنها خفيّة عن عقولنا وإدراكاتنا ، وليس لأحد أن يحكم بأن كلّما لا يدرك فهو غير واقع ، وهذا ممّا يختل به النظام ويبطل به الانتظام ، فيكون حمل مريم العذراء بكلمة الله عيسى بن مريم لا يعقل أن يكون بغير سبب واقعي ، بل عن بعض أكابر الفلاسفة إثبات أن له سبّبا ظاهريّا أيضا ، وهو أن المرأة قد تصل من كمالها إلى حدّ تتحقّق فيها صفة العاقديّة ، مضافا إلى صفة الانعقاديّة ، فإذا حصلت مواجهة بين هذه المرأة وشاب جميل تنعقد النطفة من دون وقوع أي اتصال جسمي وتماس خارجي بينهما ، فإن الذي يقدر على أن يرسل الرياح لواقح لقادر على أن يجعل الهواء المجاور في بعض الموارد لقاحا أيضا ، إظهارا لتسخير الأشياء تحت إرادته وقدرته ، وما ذكره صحيح في الجملة ، وسيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام فيه.
وكيف كان ، فإن حمل مريم لعيسى لم يكن من دون سبب واقعي ، وهذا هو ظاهر قوله تعالى : (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) [سورة مريم ،