قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ) [سورة المائدة ، الآية : ١١١] ، والوحي ـ بأي معنى أخذ ـ كاشف عن كمال إيمانهم وجلالة قدرهم ، ولكن استفادة كونهم أنبياء الله من الوحي إليهم مشكل ، لأنه أعمّ من ذلك ، إذ قد يستعمل الوحي في مجرّد الإلقاء في القلب من الله تعالى ، كما في قوله عزوجل : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) [سورة القصص ، الآية : ٧].
قوله تعالى : (رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ).
تضرّع منهم إلى الله تعالى والدعاء على الإيمان ، فيكون مثل قوله تعالى : (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) [سورة آل عمران ، الآية : ٨].
والجملة مقول قول الحواريين ، وإنما حذف القول مبالغة في التضرّع ، وللدلالة على التشرّف بالدعاء ، ولبيان نفس الحكاية ، وهو من أحسن الأساليب البلاغيّة وهو في القرآن الكريم كثير جدا ، ويستفاد أن الداعي قد أهمل نفسه أمام المدعو ولا يرى لها شأنا ، وإنما همّه التضرّع وعرض الحال.
وإنما ذكر المتابعة للرسول بعد الإيمان بالله تعالى ، لبيان أن الإيمان به جلّت عظمته يستلزم العمل بما جاء به الرسول ، وأن أحدهما بدون الآخر لا أثر له.
قوله تعالى : (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ).
أي : وثبّتنا مع الشاهدين ، والمراد منه المعنى العام للشهود في كلّ عالم من العوالم ، ففي عالم الدنيا شهود الواقع والحقّ على ما هو عليه ، المشتمل على تبليغ الحقّ أيضا ، الذي هو من أعلى درجات الإيمان ، بل لا درجة فوقه ، كما في قوله تعالى : (وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) [سورة المائدة ، الآية : ٨٣]. وبالنسبة إلى أعمال الجوارح شهود مطابقتها مع الواقع ، وبالنسبة إلى عالم البرزخ والآخرة شهود عين تلك الحقائق بصور مناسبة لتلك العوالم ، وقد تقدّم في قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) [سورة البقرة ، الآية : ١٤٣] ، بعض الكلام فراجع.