وكانت البقية منبعثة منه انبعاث الأشعة من الشمس ، فلا تعدّد ولا اشتراك حينئذ ، فلا حاجة لذكره صلىاللهعليهوآله بالخصوص بعد فرض الحصر فيه.
ودعوى : أن العلم بالتأويل منحصر به جلّ شأنه ، ولا يتعدّى عنه ، لأنه من علم الغيب الذي اختصّ به ، فينحصر التأويل به تعالى ولا يعمّ غيره.
مخدوشة : بأن العلم بالغيب مختصّ به تعالى بالذات بلا إشكال ، عقلا ونقلا ، ولكن أنبياءه وأولياءه يستلهمون بعض ذلك منه ويظهرونه للناس ، إثباتا لمقامهم واحتجاجا على الخلق ، فليكن المقام كذلك.
وقولهم : آمنا به كلّ من عند ربنا ، من قبيل ترتّب المعلول على العلّة ، لأن علمهم بأن جميع الآيات الشريفة من المحكم والمتشابه من عنده تعالى يوجب الإيمان بالكلّ ، فلا متشابه عندهم في الواقع ، لأنهم بما علّمهم الله تعالى من علم التأويل يردّون المتشابه إلى المحكم ، فهما بمنزلة قرينة اللفظ ، وذي القرينة عندهم بخلاف غيرهم ، فيتحقّق عندهم المتشابه ويأخذون به ابتغاء الفتنة وابتغاء التأويل.
والمعنى : وما يعلم تأويل القرآن كلّه إلا الله والراسخون في العلم ، الذين كرّمهم الله تعالى بهذه الرتبة بتعليمه لهم ، ومع العلم بتأويله يقولون : آمنا بالكتاب كلّ من المحكم والمتشابه والتنزيل والتأويل من عند ربنا.
قوله تعالى : (وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ).
اللب : العقل الخالص عن كلّ الشوائب ، وإنما عبّر سبحانه وتعالى بالتذكّر ، لأن التذكّر والتفكّر في المعارف الربوبية من شؤون العقل الخالص ، فإن أولي الألباب يتفكّرون في المعارف الإلهية ، فينتقلون من المعلول إلى العلّة أو بالعكس.
والآية المباركة تبيّن شرف الخطاب والمخاطب ، إذ نفس هذا الخطاب خطاب تشريفي ، فلا بد وأن يكون المخاطب من له الإضافة التشريفية ، وليس ذلك إلا من كان من أولي الألباب ، وقد مدحهم سبحانه وتعالى في جملة كثيرة من الآيات المباركة ، ولعلّ أهمها قوله تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ* الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٩٠].