قال السدّي : نزلت هاتان الآيتان في قوم منافقين كانوا بالمدينة ، فطلبوا الخروج عنها نفاقا وكفرا ، وقالوا : اجتويناها أي أصابتنا حمى المدينة ووخمها ، وكرهنا المقام فيها ، وإن كانوا في نعمة.
والمعنى : لا داعي للاختلاف في شأن هؤلاء المنافقين على فرقتين للحكم عليهم ، فهم في الواقع قوم ضالون ، اختاروا الضلال ، فأبعدهم الله عن الحق والهدى ، فلا يجوز اتخاذهم أنصارا للمسلمين ، ولا يعتمد عليهم حتى يهاجروا في سبيل الله هجرة خالصة لوجه الله ، فإن أعرضوا وتولوا عن الهجرة ، ولزموا مواضعهم ، فيقتلون حيث وجدوا في أي مكان وزمان ، في الحل أو في الحرم. وهم يتمنون الضلالة لسائر المسلمين ، ليتساووا معهم ويقضوا على الإسلام كله ، وما ذاك إلا لشدة عداوتهم وبغضهم للمسلمين ، وتماديهم في الضلال والكفر ، هذا هو النوع الأول من النفاق وهو الأشهر والأخطر.
والنوع الثاني من النفاق : هو النفاق العرفي أو النفاق العملي : وهو أن يكون سر الإنسان خلاف علانيته. وهذا قد يصدر من بعض المسلمين ، وهو الذي أخبر عنه الرسول صلىاللهعليهوسلم بقوله فيما رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي هريرة : «آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان».
والمراد : أن صاحب كل خصلة من هذه الخصال منافق ، وليس المراد أنه لا بد من اجتماع الخصال الثلاث في شخص واحد ، فمن تخلّق بواحدة من هذه الخصال فهو شبيه بالمنافق ، متخلق بأخلاقه ، في حق من حدثه ، أو وعده ، أو ائتمنه. ولا يكون منافقا من وقع مرة في الكذب ، أو خلف الوعد ، أو خيانة الأمانة ، وإنما المنافق هو الذي يكون ديدنه وشأنه وخلقه الكذب أو نقض العهد والوعد ، أو خيانة الأمانة ، فهذا الشخص إذا حدث في كل شيء كذب فيه ، وإن عاهد أو وعد ، أخلف الوعد