وجعل الله الأشهر الحرم فترة سلام وأمان ، وتلك الأشهر هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب الذي هو شهر مضر ، وهو رجب الأصم ؛ لأنه لا يسمع فيه صوت السلاح ، فيأمن الناس على أنفسهم وأموالهم ومعايشهم وتجاراتهم ، وتهدأ النفوس ، وتخمد نار الحروب ، وينصرفون إلى العبادة والحج وصلة القرابة ، وتحصيل الأقوات كفاية العام.
وكذلك الهدي (وهو كل ما يقدم من الأنعام حين زيارة البيت الحرام) والقلائد أي الإبل المقلّدة المعلمة بلحاء الشجر ، جعلها الله قياما للناس أي أمانا ، فالهدي أمان لمن يسوقه ؛ لأنه يعلم أنه في عبادة ، لم يأت لحرب ، وكذلك القلائد من الإبل التي تقلّد بلحاء الشجر أو غيره ، فتكون أمانا لمن قلّدها ، وكان هذا التقليد أو العادة المتّبعة محلّ تعظيم شديد في نفوس العرب ، حتى إن من ليس بمحرم لا يقدر أن يتقلّد شيئا خوفا من الله ، وكان هؤلاء الزّوار للكعبة إذا انصرفوا ، تقلّدوا من شجر الحرم.
قال سعيد بن جبير رحمهالله : جعل الله هذه الأمور للناس وهم لا يرجون جنة ولا يخافون نارا ، ثم شدّد ذلك بالإسلام.
فعل الله وجعل هذه الأمور معالم أمن ونفع ، لتعلموا أيها الناس أن الله تعالى يعلم تفاصيل أمور السماوات والأرض ، ويعلم مصالحكم أيها الناس قبل وبعد ، فانظروا لطفه بالعباد على حال كفرهم. والله تعالى علّام بكل شيء صغير أو كبير ، سرّ أو علن ، باطن أو ظاهر. وعلمه تعالى علم تامّ بالجزئيات ودقائق الموجودات ، كما قال عزوجل : (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [الأنعام : ٦ / ٥٩].