ثم أكّد الله تعالى ترك المستهزئين بآيات القرآن بقوله : (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً ..) أي اترك أيها الرسول والمؤمنون الذين اتّخذوا دينهم مجالا للعب واللهو ، فإنهم يتلاعبون بدينهم بعبادة الأصنام ، يصنعونها بأيديهم ثم يأكلونها ، فقد أضاعوا عمرهم فيما لا يفيد ، وهذا هو اللعب ، وشغلوا أنفسهم عن العمل المفيد ، وهذا هو اللهو ، وغرّتهم أي خدعتهم الدنيا الفانية ، وآثروها على الحياة الباقية ، واشتغلوا بلذّات الدنيا الحقيرة ، فخاضوا في آيات الله بدلا عما كان يجب عليهم من فهمها وامتثالها ، كما قال تعالى : (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٣)) [الحجر : ١٥ / ٣].
وذكّر أيها الرسول الناس بالقرآن وعظهم به ، لئلا تبسل نفس ، أي تجازى وتسلّم إلى الهلاك وتتحمل سوء عملها الذي صدر منها في الدنيا ، وذلك في حال لا قريب منها ولا شفيع لها ولا ناصر ينصرها ، بل ولا ينفعها عدل أي فداء تفتدي به ، فإن بذلت كل فداء ، لم يقبل منها ، كما قال تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) [البقرة : ٢ / ١٢٣].
وهذا إبطال لمبدأ وثني : وهو رجاء النّجاة في الآخرة ، كما في الدنيا بتقديم الفدية لله تعالى ، أو بشفاعة الشفعاء ، ووساطة الوسطاء عند الله تعالى.
إن جزاء المستهزئين بآيات الله وهو العذاب في نار جهنم ، كان بسبب سوء صنيعهم ، فأولئك الذين أبسلوا بما كسبوا ، أي أولئك المتّخذون دينهم لعبا ولهوا هم الذين جوزوا وعذّبوا بسبب عملهم في الدنيا ، وجزاؤهم شراب من حميم ، أي من ماء شديد الحرارة ، يحرق البطون ، ويقطع الأمعاء ، ثم ينبت بدلها لتكرار العذاب ، كما قال الله تعالى : (وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) [محمد : ٤٧ / ١٥]. وقال سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (٥٦)) [النّساء : ٤ / ٥٦].