وجوز السمين : وجها ثانيا ، وهو كون الموصول فيهما مبتدأ ، وما بعده خبره.
وعندي أن هذا هو الوجه ، ما قبله تكلف ، وأن الموصولين مستأنفان لمدح إيمان الأنصار والتابعين لهم بتلك الأخلاق الفاضلة ، والخصال الكاملة. وما حمل الزمخشري ومن تابعه على الاقتصار على الوجه الأول إلا لتشمل أصناف من يستحق الفيء من فقراء كلّ ، كأنه قيل : (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا ...) إلخ ، (وَ) للفقراء (الَّذِينَ تَبَوَّؤُا ...) إلخ ، وللفقراء الذين جاءوا من بعدهم ... إلخ ، مع أن سياق الآيات المذكورة ، ورعاية وقت نزولها ، والمهاجرون في جهد ، والأنصار في سعة ورغد ـ يقضي بأن المقصود منها للفيء ، هو فقراء المهاجرين خاصة وأن الذين تبوءوا الدار في غنى عنه وعدم تشوف إليه ، لشدة محبتهم لإخوانهم ، بل رغبتهم في إيثارهم. ثم بين تعالى حال من يجيء بعدهم بأنه يثني على من سبقه ، ويدعو له ابتهاجا بما أتوا ، واغتباطا بما عملوا ، لأنهم بين مهاجر عن أهله وأمواله ، محبة في الله ورسوله ، وبين محب لمن هاجر ، مكرم له ، بل مؤثر إياه ، مما أشفّ عن قوة الإيمان ، والإخلاص في تدعيم روابط الإيقان ، هذا هو الظاهر من نظم الآيات الكريمة ، وذوق سوقها. وأما فقراء الصنفين الآخرين ، فإنهم يستحقون من الفيء قياسا على الصنف الأول ، لاشتراكهم في الفقر. إلا أنه في عهد النبيّ صلىاللهعليهوسلم لم يشك أحد من الأنصار في تلك الواقعة فقرا ، إلا سهلا وأبا دجانة ـ كما تقدم ـ فأعطاهما صلىاللهعليهوسلم. وأما في غيرها من الوقائع التي كثرت فيها المغانم ، فقد كان حظهم منها ما هو معروف ومبين في آيات أخر ، فإن التنزيل الكريم بيّن مقاسم الأموال لذويها في عدة آيات.
روى ابن جرير أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ) [التوبة : ٦٠]. حتى بلغ (عَلِيمٌ حَكِيمٌ) ثم قال : هذه لهؤلاء. ثم قرأ (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ ...) [الأنفال : ٤١] الآية. ثم قال : هذه الآية لهؤلاء. ثم قرأ (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) [الحشر : ٧]. حتى بلغ (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) [الحشر : ١٠]. ثم قال : استوعبت هذه الآية المسلمين عامة ، فليس أحد إلا له فيها حق. ثم قال لئن عشت ليأتين الراعي. وهو يسيّر حمره ، نصيبه ، لم يعرق فيها جبينه!
القول في تأويل قوله تعالى :
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (١١)