(لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) هذا ترخيص من الله تعالى في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم. فهو في المعنى تخصيص لقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي ...) إلخ. أي لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين من أهل مكة ، ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم ، وتقسطوا إليهم ، أي تفضوا إليهم بالبرّ ، وهو الإحسان ، والقسط وهو العدل. فهذا القدر من الموالاة غير منهي عنه ، بل مأمور به في حقهم. والخطاب ، وإن يكن في مشركي مكة ، إلا أن العبرة بعموم لفظه ، وقد حاول بعض المفسرين تخصيصه ، فردّ ذلك الإمام ابن جرير بقوله :
والصواب قول من قال : عني بقوله تعالى : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ) من جميع أصناف الملل والأديان ، أن تبروهم وتصلوهم وتقسطوا إليهم ، فإن الله عزوجل عمّ بقوله : (الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) جميع من كان ذلك صفته ، فلم يخصص به بعضا دون بعض ، ولا معنى لقول من قال : ذلك منسوخ ، لأن برّ المؤمن من أهل الحرب ممن بينه وبينه قرابة نسب ، أو ممن لا قرابة بينه وبينه ولا نسب ، غير محرم ولا منهي عنه ، إذا لم يكن في ذلك دلالة له ، أو لأهل الحرب ، على عورة لأهل الإسلام ، أو تقوية لهم بكراع أو سلاح ، وقد بين صحة ما قلناه الخبر في قصة أسماء وأمها. انتهى.
وذلك أن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت : قدمت أمي وهي مشركة في عهد قريش ، إذ عاهدوا ، فأتيت النبيّ صلىاللهعليهوسلم فقلت : يا رسول الله! إن أمي قدمت وهي راغبة ، أفأصلها؟ قال : نعم! صلي أمك. رواه أحمد (١) والشيخان (٢) ، ورواه أيضا الإمام أحمد (٣) عن عبد الله بن الزبير قال : قدمت قتيلة على ابنتها أسماء بنت أبي بكر بهدايا : ضباب ، وقرظ ، وسمن ، وهي مشركة ، فأبت أسماء أن تقبل هديتها ، وتدخلها بيتها ، فسألت عائشة النبيّ صلىاللهعليهوسلم. فأنزل الله تعالى : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ ...) إلى آخر الآية. فأمرها أن تقبل هديتها ، وأن تدخلها بيتها.
__________________
(١) أخرجه في المسند ٦ / ٣٤٤.
(٢) أخرجه البخاري في : الهبة ، ٢٩ ـ باب الهدية للمشركين ، حديث رقم ١٢٧٢.
وأخرجه مسلم في : الزكاة ، حديث رقم ٤٩ و ٥٠.
(٣) أخرجه في المسند ٤ / ٣.