القول في تأويل قوله تعالى :
(فَالْجارِياتِ يُسْراً (٣) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً) (٤)
(فَالْجارِياتِ يُسْراً) أي السفن الجارية في البحر سهلا. أو الرياح الجارية في مهابّها. أو الكواكب التي تجري في منازلها. و (يُسْراً) صفة مصدر محذوف. أو جريا ذا يسر (فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً) أي الملائكة التي تقسّم الأمور من الأمطار والأرزاق وغيرهما ، أو ما يعمهم وغيرهم من أسباب القسمة. أو الرياح يغسمن الأمطار بتصريف السحاب.
تنبيهات :
الأول ـ ذكرنا أن هذه الأمور الأربعة يجوز أن تكون أمورا متباينة ، وأن تكون أمرا له أربعة اعتبارات. والأول هو المأثور عن عليّ رضي الله عنه : أن الذاريات هي الرياح ، والحاملات هي السحاب ، والجاريات هي السفن ، والمقسمات هي الملائكة. واختار بعضهم في (الجاريات) أنها الكواكب ، ليكون ذلك ترقيا من الأدنى إلى الأعلى : فالرياح فوقها السحاب ، والنجوم فوق ذلك ، والملائكة فوق الجميع ، تنزل بأوامر الله الشرعية والكونية.
واستظهر الرازيّ أن الأقرب أن تكون صفات أربع للرياح ، وأطال في ذلك.
واللفظ متسع بجوهره للكل ـ والله أعلم ـ.
الثاني ـ فائدة (الفاء) إن قيل إنها صفات الرياح ، فلبيان ترتيب الأمور في الوجود. فإن الذاريات تنشئ السحاب. فتقسم الأمطار على الأقطار. وإن قيل إنها أمور أربعة ، فالفاء للترتيب الذكريّ أو الرتبيّ.
الثالث ـ ذكر الرازيّ في الحكمة في القسم وجوها :
أحدها ـ أن الكفار كانوا في بعض الأوقات يعترفون بكون النبيّ صلىاللهعليهوسلم غالبا في إقامة الدليل ، وكانوا ينسبونه إلى المجادلة ، وإلى أنه عارف في نفسه بفساد ما يقوله ، وأنه يغلبنا بقوة الجدل ، لا بصدق المقال. كما أن بعض الناس إذا أقام عليه الخصم الدليل ، ولم يبق له حجة ، يقول : إنه غلبني لعمله بطريق الجدل ، وعجزي عن ذلك. وهو يعلم في نفسه أن الحق بيدي ، فلا يبقى للمتكلم المبرهن طريق غير اليمين ، فيقول : والله! إن الأمر كما أقول ، ولا أجادلك بالباطل. وذلك لأنه لو سلك طريقا آخر من ذكر دليل آخر ، فإذا تمّ الدليل الآخر يقول الخصم فيه مثل ما قال في الأول ، إن