التي أمركم ـ سبحانه ـ بدخولها ، ولا ترجعوا القهقرى منصرفين عن القتال خوفا من أعدائكم ، ومبتعدين عن طاعتي وأمرى ، فإن ذلك يؤدى بكم إلى الخسران في الدنيا والآخرة ، وإلى الحرمان من خيرات الأرض التي أوجب الله عليكم دخولها.
قال ابن جرير : فإن قال قائل : وما كان وجه قول موسى لقومه إذ أمرهم بدخول الأرض المقدسة : (وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ). أو يستوجب الخسارة من لم يدخل أرضا جعلت له؟ قيل : إن الله ـ تعالى ـ كان أمره بقتال من فيها من أهل يستوجب الخسارة من لم يدخل أرضا جعلت له؟ قيل : إن الله ـ تعالى ـ كان أمره بقتال من فيها من أهل الكفر به ، وفرض عليهم دخولها ، فاستوجب القوم الخسارة بتركهم فرض الله عليهم من وجهين :
أحدهما : تضييع فرض الجهاد الذي كان الله فرضه عليهم.
والثاني : مخالفتهم أمر الله في تركهم دخول الأرض المقدسة» (١).
هذا ، وقد جاءت هذه الجملة الكريمة ، وهي قوله ـ تعالى ـ : (وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) تحمل طابع التحذير الشديد ، وتنذرهم بالخسران المبين إذا لم يستجيبوا لأمر الله بعد أن ساق لهم موسى ألوانا من المشجعات والمرغبات في الجهاد ، وذلك لأنه ـ عليهالسلام ـ كان متوقعا منهم الإحجام عن القتال ، بعد أن جرب عنادهم وعصيانهم ونكوصهم على أعقابهم في مواطن كثيرة ، فهذه التجارب جعلته وهو يأمرهم بدخول الأرض المقدسة يذكر لهم أكبر النعم ويسوق لهم أكرم الذكريات وأقوى الضمانات وأشد التحذيرات لكي يقبلوا على الجهاد بعزيمة صادقة.
ولكن بنى إسرائيل هم بنو إسرائيل ، مهما قيل لهم من ألوان الترغيب والترهيب فإن همتهم الساقطة وعزيمتهم الخائرة ، وطبيعتهم المنتكسة لم تتركهم فقد قالوا لنبيهم متذرعين بالمعاذير الكاذبة : (يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ) وقوله : (جَبَّارِينَ) جمع جبار «والجبار صيغة مبالغة من جبر الثلاثي. ويطلق في اللغة على الطويل القوى العاتي الذي يجبر غيره على ما يريد. مأخوذ من قولهم : مخلة جبارة أى : طويلة لا ينال ثمرها بالأيدى.
أى : قال بنو إسرائيل لنبيهم موسى ـ عليهالسلام ـ إن الأرض التي وعدتنا بدخولها فيها قوم متغلبون على من يقاتلهم ، ولا قدرة لنا على لقائهم وإنا لن ندخل هذه الأرض المقدسة التي أمرتنا بدخولها مادام هؤلاء الجبارون فيها ، فإن يخرجوا منها لأى سبب من الأسباب التي لا شأن لنا بها ، فنحن على استعداد لدخولها في راحة ويسر ، وبلا أدنى تعب أو جهد.
__________________
(١) تفسير ابن جرير ج ١ ص ١٧٣