ولا شك أن قولهم هذا الذي حكته الآية الكريمة عنهم ليدل على منتهى الجبن والضعف ، لأنهم لا يريدون أن ينالوا نصرا باستخدام حواسهم البدنية أو العقلية ، وإنما يريدون أن ينالوا ما يبغون بقوة الخوارق والآيات ، وأمة هذا شأنها لا تستحق الحياة الكريمة ، لأنها لم تقدم العمل الذي يؤهلها لتلك الحياة :
وفي ندائهم لنبيهم باسمه مجردا (قالُوا يا مُوسى) سوء أدب منهم معه ، حيث استهانوا بمقام النبوة فنادوه باسمه حتى يكف عن دعوتهم إلى الجهاد. وفي قولهم (وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها) امتناع عن القتال بإصرار شديد ، حيث أكدوا عدم دخولهم بحرف النفي (لَنْ) وجعلوا غاية النفي أن يخرج الجبارون منها ، مع أن خروجهم منها بدون قتال أمر مستبعد ، وهم لا يريدون قتالا ، بل يريدون دخولا من غير معاناة ومجاهدة.
ثم بين القرآن بعد ذلك أن رجلين مؤمنين منهم قد استنكرا إحجام قومهما عن الجهاد ، وحرضاهم على طاعة نبيهم فقال : (قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ، ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ ، وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).
والمراد بالرجلين : يوشع بن نون ، وكالب بن يوقنا ، وكانا من الاثنى عشر نقيبا.
وقد وصف الله ـ تعالى ـ هذين الرجلين بوصفين.
أولهما : قوله : (مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ) أى : من الذين يخافون الله وحده ويتقونه ولا يخافون سواه وفي وصفهم بذلك تعريض بأن من عداهما من القوم لا يخافونه ـ تعالى ـ بل يخافون العدو.
وقيل المعنى : من الذين يخافون الأعداء ويقدرون قوتهم إلا أن الله ـ تعالى ـ ربط على قلبيهما بطاعته. فجعلهما يقولان ما قالا :
الوصف الثاني : فهو قوله : (أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) فهذه الجملة صفة ثانية للرجلين. أى : قال رجلان موصوفان بأنهما من الذين يخافون الله ـ تعالى ـ ولا يخافون سواه ، وبأنهما من الذين أنعم الله عليهما بالإيمان والتثبيت والثقة بوعده ، والطاعة لأمره قالا لقومهما. ادخلوا عليهم الباب.
هذا ، وقد ذكر صاحب الكشاف وغيره وجها ثالثا فقال : ويجوز أن تكون الواو في قوله : (يَخافُونَ) ـ لبنى إسرائيل. والراجع إلى الموصول محذوف. والتقدير : قال رجلان من الذين يخاف بنو إسرائيل منهم ، ـ وهم الجبارون ـ وهما رجلان منهم «أنعم الله عليهما» بالإيمان فآمنا ، قالا لهم : إن العمالقة أجسام لا قلوب فيها فلا تخافوهم وازحفوا إليهم فإنكم غالبوهم ،