هذه الأرض التي أمرتنا بدخولها في أى وقت من الأوقات ، مادام أولئك الجبارون يقيمون فيها ، لأننا لا قدرة لنا على مواجهتهم.
وقد أكدوا امتناعهم عن دخول هذه الأرض في هذه المرة بثلاثة مؤكدات ، هي : إن ، ولن ، وكلمة أبدا.
أى : لن ندخلها بأى حال من الأحوال مادام الجبارون على قيد الحياة ويسكنون فيها.
ثم أضافوا إلى هذا القول الذي يدل على جبنهم وخورهم ، سلاطة في اللسان ، وسوء أدب في التعبير ، وتطاولا على نبيهم فقالوا : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ).
أى : إذا كان دخول هذه الأرض يهمك أمره ، فاذهب أنت وربك لقتال سكانها الجبابرة وأخرجاهم منها لأنه ـ سبحانه ـ ليس ربا لهم ـ في زعمهم ـ إن كانت ربوبيته تكلفهم قتال سكان تلك الأرض.
وقولهم : (إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) تأكيد منهم لعدم دخولهم لتلك الأرض المقدسة.
أى : إنا ها هنا قاعدون في مكاننا لن نبرجه ، ولن نتقدم خطوة إلى الأمام لأن كل مجد وخير يأتينا عن طريق قتال الجبارين فنحن في غنى عنه ، ولا رغبة لنا فيه.
وإن هذا الوصف الذي وصفوا به أنفسهم ، ليدل على الخسة وسقوط الهمة ، لأن القعود في وقت وجوب النشاط للعمل الصالح يؤدى بصاحبه إلى المذمة ، والمذلة ، قال ـ تعالى ـ ذمّا لأمثالهم : (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) (١).
قال الآلوسى ما ملخصه : وقوله ـ تعالى ـ حكاية عنهم : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا) قالوا ذلك استهانة واستهزاء به ـ سبحانه ـ وبرسوله موسى وعدم مبالاة. وقصدوا ذهابهما حقيقة كما ينبئ عنه غاية جهلهم ، وقسوة قلوبهم والمقابلة : (إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ).
ولم يذكروا أخاه هارون ولا الرجلين اللذين قالا ، كأنهم لم يجزموا بذهابهم ، أو يعبئوا بقتالهم وأرادوا بالقعود عدم التقدم لا عدم التأخر ثم قصت علينا السورة الكريمة أن موسى ـ عليهالسلام ـ بعد أن رأى من قومه ما رأى من عناد وجبن ، لجأ إلى ربه يشكو إليه منهم ، يلتمس منه أن يفرق بينه وبينهم ، فقال : (رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي ، فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ).
أى : قال موسى باثا شكواه وحزنه إلى الله ، ومعتذرا إليه من فسوق قومه وسفاهتهم
__________________
(١) سورة التوبة الآية ٤٦