وجبنهم : رب إنك تعلم أنى لا أملك لنصرة دينك أمر أحد ألزمه بطاعتك سوى أمر نفسي ، وأمر أخى هارون ، ولا ثقة لي في غيرنا أن يطيعك في العسر واليسر والمنشط والمكره.
ولم يذكر الرجلين اللذين قالا لقومهما فيما سبق (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ) لعدم ثقته الكاملة في دخولهما معه أرض الجبارين ، وفي وقوفهما بجانبه عند القتال إذا تخلى بقية القوم عنه فإن بعض الناس كثيرا ما يقدم على القتال مع الجيش الكبير ، ولكنه قد يحجم إذا رأى أن عدد المجاهدين قليل. ومن هنا لم يذكر أنه يملك أمر هذين الرجلين كما يملك أمر نفسه وأمر أخيه.
وصرح موسى ـ عليهالسلام ـ بأنه يملك أمر أخيه هارون كما يملك أمر نفسه ، لمؤازرته التامة له في كفاحه ظلم فرعون ، ولوقوفه إلى جانبه بعزيمة صادقة في كل موطن من مواطن الشدة وليقينه بأنه مؤيد بروح من الله ـ تعالى.
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : أما كان معه الرجلان المذكوران؟ قلت كأنه لم يثق بهما كل الوثوق ، ولم يطمئن إلى ثباتهما لما ذاق على طول الزمان واتصال الصحبة من أحوال قومه ، وتلونهم وقسوة قلوبهم فلم يذكر إلا النبي المعصوم الذي لا شبهة في أمره. ويجوز أن يكون قال ذلك لفرط ضجره عند ما سمع منهم تقليلا لمن يوافقه. ويجوز أن يريد ومن يؤاخينى على ديني» (١).
هذا وقد ذكر النحويون وجوها من الإعراب لقوله (وَأَخِي) منها : أنه منصوب عطفا على قوله : (نَفْسِي) أى : ولا أملك إلا أخى مع ملكي نفسي دون غيرهما.
وقوله ـ تعالى ـ : (فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) بيان لما يرجوه موسى من ربه ـ عزوجل ـ بعد أن خرج بنو إسرائيل عن طاعته.
والفاء هنا لترتيب الفرق والدعاء به على ما قبله. والفرق معناه الفصل بين شيئين.
والمعنى : قال موسى مخاطبا ربه : لقد علمت يا إلهى أنى لا أملك لنصرة دينك إلا أمر نفسي وأمر أخى ، أما قومي فقد خرجوا عن طاعتي وفسقوا عن أمرك ومادام هذا شأنهم فافصل بيننا وبينهم بقضائك العادل ، بأن تحكم لنا بما نستحق ، وتحكم عليهم بما يستحقون فإنك أنت الحكم العدل بين العباد.
وهذا الرجاء من موسى لربه في معنى الدعاء عليهم بسبب جبنهم وعصيانهم وقد أجاب الله ـ تعالى ـ دعاءه فيهم ، بأن أضلهم ظاهرا كما ضلوا باطنا وجاء الحكم الفاصل ممن يملكه فقال ـ تعالى ـ : (قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ ، فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ).
__________________
(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٦٢٣