أنواع وساوسها ، صار هذا الفعل سهلا عليه ، فكأن النفس جعلت بوساوسها العجيبة هذا الفعل كالمطيع له ، بعد أن كان كالعاصى المتمرد عليه ، فهذا هو المراد بقوله : (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ) (١).
هذا ، والآية الكريمة بعد كل ذلك ، تشير إلى شناعة الجريمة في ذاتها من حيث الباعث عليها ، إذ الباعث عليها هو الحسد ومن حيث الصلة بين القاتل والمقتول إذ هي صلة أخوة تقتضي المحبة والمودة والتراحم ومن حيث ذات الفعل فإنه أكبر جريمة بعد الإشراك بالله ـ تعالى ـ.
قال الآلوسى : أخرج الشيخان وغيرهما عن ابن مسعود ـ رضى الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم «لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها. لأنه أول من سن القتل» وأخرج ابن جرير والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر ـ رضى الله عنه ـ قال : «إنا لنجد ابن آدم القاتل ، يقاسم أهل النار العذاب. عليه شطر عذابهم» (٢).
ثم حكى القرآن بعض ما حدث بعد قتل الأخ أخاه فقال : (فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ).
وقوله : (فَبَعَثَ) من البعث بمعنى الإرسال. وهو هنا مستعمل في الإلهام بالطير إلى ذلك المكان بحيث يراه قابيل.
والغراب : طائر معروف. قالوا : والحكمة في كونه المبعوث دون غيره من الطيور أو الحيوان ، لأنه يتشاءم به في الفراق والاغتراب. أو لأن من عادة الغراب دفن الأشياء.
وقوله : (يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ) أى : ينبش التراب بمنقاره ورجليه بحيث يستخرجه من الأرض ، ليعمل ما يشبه الحفرة.
والتعبير بالمضارع ، للإشارة إلى أن البحث قد مكث وقتا ، وكان مجال استمرار.
وقوله : (لِيُرِيَهُ) إما متعلق بقوله (فَبَعَثَ) فيكون الضمير في الفعل لله ـ تعالى ـ أو متعلق بقوله : (يَبْحَثُ) فيكون الضمير للغراب.
قال القرطبي : قال مجاهد : بعث الله غرابين فاقتتلا حتى قتل أحدهما الآخر ثم حفر فدفنه ـ فتعلم قابيل ذلك من الغراب ـ وكان ابن آدم هذا أول من قتل. وقيل إن الغراب
__________________
(١) تفسير الفخر الرازي ج ١١ ص ٢٠٧
(٢) تفسير الآلوسى ج ٦ ص ١١٥