وعبر هنا بقوله «من بعد مواضعه» وفي مواطن أخرى بقوله (عَنْ مَواضِعِهِ) لأن المقام هنا للحديث عن الأحكام المستقرة الثابتة التي حاول أولئك المسارعون في الكفر تغييرها وإحلال أحكام أخرى محلها تبعا لأهوائهم كما حدث في قضية الزنا وفي غيرها من القضايا التي تحاكموا فيها إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فكان من المناسب هنا التعبير بقوله : (مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) أى : من بعد استقرار مواضعه وثبوتها ثبوتا لا يقبل التحريف أو التغيير أو الإهمال.
وقوله : (يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا) بيان لما نطقت به أفواه أولئك الذين لم يحضروا مجالس رسول الله من مكر وخداع وضلال.
أى : أن أولئك القوم الآخرين الذين لم يحضروا مجلس رسول الله صلىاللهعليهوسلم عنادا وتكبرا لم يكتفوا بتحريف الكلم عن مواضعه هم وأشياعهم. بل كانوا إلى جانب ذلك يقولون لمطاياهم السامعين منهم أو السامعين من أجلهم : يقولون لهم عند ما أرسلوهم إلى الرسول صلىاللهعليهوسلم ليحكم بينهم (إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ) أى : إن أفتاكم محمد صلىاللهعليهوسلم يمثل هذا الذي نفتيكم به ـ كالجلد والتحميم بدل الرجم ـ فاقبلوا حكمه وخذوه واعملوا به (وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا) أى : وإن أفتاكم بغير ما أفتيناكم به فاحذروا قبول حكمه ، وإياكم أن تستجيبوا له ، أو تميلوا إلى ما قاله لكم.
واسم الإشارة هذا في قوله : (يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا) يعود إلى القول المحرف الذي تواضع أحبار اليهود على الإفتاء به تبعا لأهوائهم. كما حدث منهم في قضية الزنا حيث غيروا حكم الرجم بحكم آخر هو الجلد والتحميم.
وفي ترتيب الأمر بالحذر على مجرد عدم إيتاء المحرف ، إشارة إلى تخوفهم الشديد من ميل أتباعهم إلى حكم رسول الله صلىاللهعليهوسلم فهم يحذرونهم بشدة من الاستماع إلى ما يقوله لهم مما يخالف ما تواضعوا عليه من أباطيل.
وقوله : (إِنْ أُوتِيتُمْ) مفعول لقوله (قَدِيرٌ). واسم الإشارة (يَقُولُونَ) مفعول ثان «لأوتيتم» والأول نائب الفاعل وقوله : (فَخُذُوهُ) جواب الشرط ثم بين ـ سبحانه ـ سوء عاقبتهم فقال : (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً ، أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ).
أى : ومن يقض الله بكفره وضلاله ، فلن تملك له ـ أيها الرسول الكريم ـ شيئا من الهداية لتدفع بها ضلاله وكفره ، أولئك الموصوفون بما ذكر من الصفات الذميمة لم يرد الله ـ تعالى ـ أن يطهر قلوبهم من النفاق والضلال ؛ لأنهم استحبوا العمى على الهدى ، (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) أى : فضيحة وهوان بسبب ظهور كذبهم ، وفساد نفوسهم ، وانتشار تعاليم