بمجيء محمد صلىاللهعليهوسلم سبب لاهتداء الناس إلى نبوته. ولما كان أشد وجوه الاختلاف والمنازعة بين المسلمين وبين اليهود ، والنصارى في ذلك ، لا جرم أعاده الله ـ تعالى ـ مرة أخرى تنبيها على أن الإنجيل يدل دلالة ظاهرة على نبوة محمد صلىاللهعليهوسلم فكان هدى في هذه المسألة التي هي أشد المسائل احتياجا إلى البيان والتقرير.
وأما كونه موعظة : فلاشتمال الإنجيل على النصائح والمواعظ والزواجر البليغة المتأكدة. وإنما خصها بالمتقين ، لأنهم هم الذين ينتفعون بها» (١).
وقوله ـ تعالى ـ : (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ) أمر من الله ـ تعالى ـ لأتباع سيدنا عيسى ـ عليهالسلام ـ الذين وجدوا قبل بعثة النبي صلىاللهعليهوسلم بأن يحكموا فيما بينهم بمقتضى أحكام الإنجيل بدون تحريف أو تبديل. أما الذين وجدوا بعد بعثة النبي صلىاللهعليهوسلم فمن الواجب عليهم أن يصدقوه ويتبعوا شريعته ، لأن الشريعة التي جاء بها صلىاللهعليهوسلم نسخت ما قبلها من شرائع.
قال الآلوسى ما ملخصه ، قوله : (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ) أمر مبتدأ لهم بأن يحكموا ويعلموا بما فيه من الأمور التي من جملتها دلائل رسالته صلىاللهعليهوسلم وما قررته شريعته الشريفة من أحكام ، وأما الأحكام المنسوخة فليس الحكم بها حكما بما أنزل الله ، بل هو إبطال وتعطيل له إذ هو شاهد بنسخها وانتهاء وقت العمل بها ، لأن شهادته بصحة ما ينسخها من الشريعة الأحمدية شاهدة بنسخها. واختار كونه أمرا مبتدأ الجبائي.
وقيل هو حكاية للأمر الوارد عليهم بتقدير فعل معطوف على قوله (وَآتَيْناهُ).
أى : ـ وآتينا عيسى ابن مريم الإنجيل فيه هدى ونور ـ وقلنا ليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه. وحذف القول ـ لدلالة ما قبله عليه ـ كثير في الكلام. ومنه قوله ـ تعالى ـ : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ).
واختار ذلك على بن عيسى.
وقرأ حمزة (وَلْيَحْكُمْ) ـ بكسر اللام وفتح الميم ـ بأن مضمرة ـ بعد لام كي ـ والمصدر معطوف على (هُدىً وَمَوْعِظَةً) على تقدير كونهما معللين. أى : وآتيناه ليحكم (٢).
وقوله : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) تذييل مقرر ومؤكد لوجوب الامتثال لأحكام الله ـ تعالى ـ. أى : ومن لم يحكم بما أنزل الله ، فأولئك هم المتمردون الخارجون عن جادة الحق. وعن السنن القويم ، والصراط المستقيم.
__________________
(١) تفسير الرازي ج ١٢ ص ٩
(٢) تفسير الآلوسى ج ٦ ص ١٥٠