في الحال ، وفي ذلك ما فيه من النعي عليهم. والتوبيخ لهم والتعجيب من أحوالهم التي بلغت نهاية الشناعة والقبح.
ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك أنهم مع ما فعلوه مع رسلهم من التكذيب والقتل لم ينزجروا ، ولم يندموا ... بلغ بهم الغرور والسفه أنهم ظنوا أن ما فعلوه شيء هين وأنه لن يكون له أثر سىء في حياتهم. فقال ـ تعالى ـ (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ).
وقوله : (وَحَسِبُوا) معطوف على قوله (كَذَّبُوا) وهو من الحسبان بمعنى الظن : وقوله : (فِتْنَةٌ) من الفتن وهو إدخال الذهب في النار لتظهر جودته. والمراد بها هنا : الشدائد والمحن والمصائب التي تنزل بالناس.
وقوله : (فَعَمُوا وَصَمُّوا) من العمى الذي هو ضد الإبصار ، ومن الصمم الذي هو ضد السمع. وقد استعير هنا للإعراض عن دلائل الهدى والرشاد التي جاء بها الرسل.
والمعنى إن بنى إسرائيل قد أخذنا عليهم العهد المؤكد ، وأرسلنا إليهم الرسل لهدايتهم ، فكان حالهم أنهم كذبوا بعض الرسل ، وقتلوا البعض الآخر. ولم يكتفوا بهذا بل ظنوا ـ لسوء أعمالهم وفساد قلوبهم واستيلاء الغرور والتكبر على نفوسهم ـ أنهم لن يصيبهم بلاء ولا عقاب بتكذيبهم للرسل وقتلهم لهم فأمنوا عقاب الله وتمادوا في فنون البغي والفساد وعموا وصموا عن دلائل الهدى والرشاد التي جاء بها الرسل واشتملت عليها الكتب السماوية (ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ) أى : قبل توبتهم بعد أن رجعوا عما كانوا عليه من فساد (ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا) أى : ثم نكسوا على رءوسهم مرة أخرى فعادوا إلى فسادهم وضلالهم وعدوانهم على هدايتهم ، إلا عددا قليلا منهم بقي على إيمانه وتوبته فأنت ترى أن الآية الكريمة مسوقة لبيان فساد معتقدات بنى إسرائيل وما جبلت عليه نفوسهم من جحود وغرور. حيث ارتكبوا ما ارتكبوا من جرائم ومنكرات تقشعر لها الأبدان ومع كل ذلك حسبوا أن الله ـ تعالى ـ لا يعاقبهم عليها ، لأنهم ـ كما يزعمون ـ أبناء الله وأحباؤه. ثم إنهم بعد أن تاب الله عليهم نقضوا عهودهم معه وعادوا إلى عماهم عن الدين الذي جاءتهم به رسلهم وإلى صممهم عن الاستماع إلى الحق الذي ألقوه إليهم.
وقوله : (أَلَّا تَكُونَ) قراءة أبو عمر والكسائي وحمزة بضم النون على اعتبار «أن» هي المخففة من الثقيلة ، وأصله أنه لا تكون فتنة. فخففت أن وحذف ضمير الشأن ـ وهو اسمها ـ وحسبوا على هذه القراءة بمعنى علموا.
وتعليق فعل الحسبان بها وهي للتحقيق لتنزيله منزلة العلم لتمكنه في قلوبهم.