ظاهرة للناس ، ودالة على احتياجهما لغيرهما في مطلب حياتهما ، ومن يحتاج إلى غيره لا يكون إلها.
وقال صاحب الكشاف : لأن من احتاج إلى الاغتذاء بالطعام وما يتبعه من الهضم والنفض ، لم يكن إلا جسما مركبا من عظم ولحم وعروق وأعصاب وأخلاط وأمزجة مع شهوة .. وغير ذلك مما يدل على أنه مصنوع مؤلف كغيره من الأجسام وحاشا للإله أن يكون كذلك (١).
ففي هذه الجمل الكريمة رد على ما زعمه النصارى في شأن عيسى وأمه بأبلغ وجه وأحكمه ، ولذا عجب الله ـ تعالى ـ رسوله وكل من يصلح للخطاب من جهلهم وبعدهم عن الحق مع وضوحه وظهوره فقال : (انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) أى : يصرفون يقال أفكه يأفكه إذا صرفه عن الشيء.
أى : انظر ـ يا محمد ـ كيف تبين لهم الأدلة المنوعة على حقيقة عيسى وأمه بيانا واضحا ظاهرا. ثم انظر بعد ذلك كيف ينصرفون عن الإصاخة إليها والتأمل فيها لسوء تفكيرهم ، واستيلاء الجهل والوهم والعناد على عقولهم.
فالجملتان الكريمتان تعجيب لكل عاقل من أحوال النصارى الذين زعموا أن الله هو المسيح ابن مريم ، أو أن الله ثالث ثلاثة. مع أنه ـ سبحانه ـ أقام لهم الأدلة المتعددة على بطلان ذلك.
وكرر الله ـ سبحانه ـ الأمر بالنظر للمبالغة في التعجيب من أحوالهم الغريبة وجيء بثم المفيدة للتراخي في قوله (ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) لإظهار ما بين وضوح الآيات وانصرافهم عنها من تفاوت شديد أى : أن بياننا للآيات أمر بديع في بابه بحيث يجعل كل عاقل يستجيب لها ، ويخضع لما تدعو إليه من هدايات وخيرات. وانصراف هؤلاء الضالين عنها ـ مع وضوحها وتعاضد ما يوجب قبولها ـ أمر يدعو إلى العجب الشديد من جهلهم وضلالهم وسوء تفكيرهم.
ثم تابع ـ سبحانه ـ حديثه عن ضلال أهل الكتاب وجهالتهم فأمر رسوله ـ صلىاللهعليهوسلم أن يوبخهم على عنادهم وغفلتهم وأن يواصل دعوتهم إلى الدين الحق فقال ـ تعالى :
(قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٧٦) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ
__________________
(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٦٦٥