بعضها ببعض في باقيها. لما بيناه غير مرة من حكمة مزج المسائل والموضوعات في القرآن من حيث هو مثاني تتلى دائما للاهتداء بها ، لا كتابا فنيا ولا قانونا يتخذ لأجل مراجعة كل مسألة من كل طائفة من المعاني في باب معين.
على أن نظمه وترتيب آياته يدهش أصحاب الأفهام الدقيقة بحسنه وتنسيقه كما ترى في مناسبة هاتين الآيتين لما قبلهما مباشرة.
ذلك أنه ـ تعالى ـ ذكر أن النصارى أقرب الناس مودة للذين آمنوا وذكر من سبب ذلك أن منهم قسيسين ورهبانا فكان من مقتضى هذا أن يرغب المؤمنون في الرهبانية ويظن الميالون للتقشف والزهد أنها مرتبة كمال تقربهم إلى الله ـ تعالى ـ وهي إنما تتحقق بتحريم التمتع بالطيبات. وقد أزال الله ـ تعالى ـ هذا الظن وقطع طريق تلك الرغبة بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) (١).
هذا ، وقد ذكر المفسرون في سبب نزول هاتين الآيتين روايات متعددة منها ما أخرجه الترمذي وابن جرير عن ابن عباس : أن رجلا أتى النبي صلىاللهعليهوسلم فقال : إنى إذا أكلت انتشرت للنساء ، وأخذتنى شهوتي فحرمت على اللحم. فأنزل الله ـ تعالى ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا). الآية (٢).
وأخرج ابن جرير عن عكرمة قال ، كان : أناس من أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم هموا بالخصاء وترك اللحم والنساء ، فنزلت هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) وعن أبى قلابة قال : أراد أناس من أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم أن يرفضوا الدنيا ، ويتركوا النساء ويترهبوا فقام رسول الله صلىاللهعليهوسلم فغلظ فيهم المقالة. ثم قال : «إنما هلك من كان قبلكم بالتشديد شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم ، فأولئك بقاياهم في الديار والصوامع ، واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وحجوا واعتمروا واستقيموا». قال : ونزلت فيهم : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا) الآية وعن أبى طلحة عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في رهط من أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم قالوا : نقطع مذاكيرنا ، ونترك شهوات الدنيا ، ونسيح في الأرض كما تفعل الرهبان ، فبلغ ذلك النبي صلىاللهعليهوسلم فأرسل إليهم ، فذكر لهم ذلك فقالوا : نعم. فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «لكني أصوم وأفطر ، وأصلى وأنام ، وأنكح النساء ، فمن أخذ بسنتي فهو منى ، ومن لم يأخذ بسنتي فليس منى».
وقد وجه سبحانه النداء للمؤمنين بوصف الإيمان ؛ لتحريك حرارة العقيدة في قلوبهم حتى يمتثلوا أوامر الله ونواهيه.
__________________
(١) تفسير المنار ج ٧ ص ١٨ بتصرف وبتلخيص
(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٨٧