وسقوطهم في أيديهم ، إذا اجتمع توبيخ الله لهم وتشكى أنبيائه منهم. ومثاله : أن ينكب بعض الخوارج على السلطان خاصة من خواصه نكبة ، قد عرفها السلطان واطلع على كنهها وعزم على الانتصار له منه. فجمع بينهما ويقول له : ما فعل بك هذا الخارجي؟ ـ وهو عالم بما فعل به ـ يريد توبيخه وتبكيته ، فيقول له : أنت أعلم بما فعل بي ، تفويضا للأمر إلى علم سلطانه واتكالا عليه ، وإظهارا للشكاية وتعظيما لما حل به منه. ـ ولله المثل الأعلى ـ وقيل : من هول ذلك اليوم يفزعون ويذهلون عن الجواب ، ثم يجيبون بعد ما تثوب إليهم عقولهم بالشهادة على أنفسهم.
وقيل معناه : علمنا ساقط مع علمك ومغمور ، لأنك علام الغيوب ، ومن علم الخفيات لم تخف عليه الظواهر التي فيها إجابة الأمم لرسلهم.
وقيل معناه : لا علم لنا بما كان منهم بعدنا ، وإنما الحكم للخاتمة ، وكيف يخفى عليهم أمرهم وقد رأوهم سود الوجوه موبخين» (١).
ثم ذكر ـ سبحانه ـ بعض النعم التي أنعم بها على عيسى وأمه فقال : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ).
وقوله : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) بدل من قوله : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) وقد نصب بإضمار اذكر.
والمعنى : اذكر أيها المخاطب لتعتبر وتتعظ يوم يجمع الله الرسل فيقول لهم ماذا أجبتم؟. واذكر ـ أيضا ـ زيادة في العبرة والعظة قوله ـ سبحانه ـ (يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) تذكر يا عيسى نعمى المتعددة عليك وعلى والدتك ـ وعبر بالماضي في قوله : (إِذْ قالَ اللهُ) مع أن هذا القول سيكون في الآخرة ، للدلالة على تحقيق الوقوع ، وأن هذا القول سيحصل بلا أدنى ريب يوم القيامة.
قال أبو السعود : قوله ـ تعالى : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) شروع في بيان ما جرى بينه ـ تعالى ـ وبين واحد من الرسل المجموعين ، من المفاوضة على التفصيل ، إثر بيان ما جرى بينه ـ تعالى ـ وبين الكل على وجه الإجمال ليكون ذلك كالأنموذج لتفاصيل أحوال الباقين ، وتخصيص شأن عيسى بالبيان ، لما أن شأنه ـ عليهالسلام ـ متعلق بكلا الفريقين من أهل الكتاب الذين نعت عليهم هذه السورة جناياتهم. فتفصيل شأنه يكون أعظم عليهم ، وأجلب لحسراتهم ، وأدخل في صرفهم عن غيهم وعنادهم» (٢).
__________________
(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٦٩٠
(٢) تفسير أبى السعود ج ٢ ص ٧٠