التعنت. وإنما هم يريدون نزولها لتلك الأسباب السابقة التي يبغون من ورائها الأكل وزيادة الإيمان واليقين والشهادة أمام الذين لم يحضروا نزولها بكمال قدرة الله وصدق عيسى في نبوته.
ثم حكى ـ سبحانه ـ ما تضرع به عيسى بعد أن سمع من الحواريين ما قالوه في سبب طلبهم لنزول المائدة من السماء فقال ـ تعالى ـ (قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ).
وقوله : (اللهُمَ) أى : يا الله. فالميم المشددة عوض عن حرف النداء ، ولذلك لا يجتمعان. وهذا التعويض خاص بنداء الله ذي الجلال والإكرام.
وقوله : (عِيداً) أى سرورا وفرحا لنا ، لأن كلمة العيد تستعمل بمعنى الفرح والسرور.
قال القرطبي : والعيد واحد الأعياد. وأصله من عاد يعود أى : رجع وقيل ليوم الفطر والأضحى عيد ، لأنهما يعودان كل سنة. وقال الخليل : العيد كل يوم يجمع الناس فيه كأنهم عادوا إليه ، وقال ابن الأنباري : سمى عيدا للعود إلى المرح والفرح فهو يوم سرور» (١).
والمعنى : قال عيسى بضراعة وخشوع ـ بعد أن سمع من الحواريين حجتهم ـ (اللهُمَّ رَبَّنا) أى : يا الله يا ربنا ومالك أمرنا ، ومجيب سؤالنا. أتوسل إليك أن تنزل علينا (مائِدَةً مِنَ السَّماءِ). أى : أطعمة كائنة من السماء ، هذه الأطعمة (تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا) أى : يكون يوم نزولها عيدا نعظمه ونكثر من التقرب إليك فيه نحن الذين شاهدناها ، ويكون ـ أيضا ـ يوم نزولها عيدا وسرورا وبهجة لمن سيأتى بعدنا ممن لم يشاهدنا.
قال ابن كثير. قال السدى : أى نتخذ ذلك اليوم الذي نزلت فيه عيدا نعظمه نحن ومن بعدنا. وقال سفيان الثوري : يعنى يوما نصلى فيه. وقال قتادة : أرادوا أن يكون لعقبهم من بعدهم. وقال سلمان الفارسي : يعنى يوما نصلى فيه. وقال قتادة : أرادوا أن يكون لعقبهم من بعدهم. وقال سلمان الفارسي : تكون عظة لنا ولمن بعدنا (٢).
وقوله : (وَآيَةً مِنْكَ) معطوف على قوله (عِيداً).
أى : تكون هذه المائدة النازلة من السماء عيدا لأولنا وآخرنا ، وتكون أيضا ـ دليلا ـ وعلامة منك ـ سبحانك ـ على صحة نبوتي ورسالتي ، فيصدقونى فيما أبلغه عنك ، ويزداد يقينهم بكمال قدرتك.
وقوله : (وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) تذييل بمثابة التعليل لما قبله. أى : أنزلها علينا يا ربنا وأرزقنا من عندك رزقا هنيئا رغدا ، فإنك أنت خير الرازقين ، وخير المعطين ، وكل عطاء من
__________________
(١) تفسير القرطبي ج ٦ ص ٣٦٧
(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ١١٦