من يلده ، فذكر (إِلهَيْنِ) على طريق الإلزام لهم.
والثاني : أنهم لما عظموها تعظيم الإله أطلق عليها اسم الإله كما أطلق اسم الرب على الأحبار والرهبان في قوله : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ).
والثالث : أنه يحتمل أن يكون فيهم من قال بذلك. ويعضد هذا القول ما حكاه أبو جعفر الإمامى عن بعض النصارى أنه قد كان فيما مضى قوم يقال لهم : المريمية ، يعتقدون في مريم الألوهية وهو أولى الأوجه عندي (١).
وقوله ـ تعالى ـ (قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ) بيان لما أجاب به عيسى على خالقه ـ عزوجل ـ.
أى : قال عيسى مجيبا ربه بكل أدب وإذعان : تنزيها لك ـ يا إلهى ـ عن أن أقول هذا القول ، فإنه ليس من حقي ولا من حق أحد أن ينطق به.
فأنت ترى أن سيدنا عيسى ـ عليهالسلام ـ قد صدر كلامه بالتنزيه المطلق لله ـ عزوجل ـ ثم عقب ذلك بتأكيد هذا التنزيه ، بأن أعلن بأنه ليس من حقه أن يقول هذا القول ، لأنه عبد له ـ تعالى ـ ومخلوق بقدرته. ومرسل منه لهداية الناس فكيف يليق بمن كان شأنه كذلك أن يقول لمن أرسل إليهم (اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ).
ثم أضاف إلى كل ذلك الاستشهاد بالله ـ تعالى ـ على براءته ، وإظهار ضعفه المطلق أمام علم خالقه وقدرته فقال ـ كما حكى القرآن عنه ـ (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ).
أى : إن كنت قلت هذا القول وهو (اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) فأنت تعلمه ولا يخفى عليك منه شيء ـ لأنك أنت ـ يا إلهى ـ تعلم ما في (نَفْسِي) أى ما في ذاتى ، ولا أعلم ما في ذاتك.
والمراد : تعلم ما أعلم ولا أعلم ما تعلم ، وتعلم ما في غيبي ولا أعلم ما في غيبك ، وتعلم ما أقول وأفعل ولا أعلم ما تقول وتفعل إنك أنت ـ يا إلهى ـ علام الغيوب.
فهذه الجملة الكريمة بجانب تأكيدها لنفى ما سئل عنه عيسى ـ عليهالسلام ـ تدل بأبلغ تعبير على إثبات شمول علم الله ـ تعالى ـ بكل شيء ، وقد أكد عيسى ذلك ، بإن المؤكدة وبالضمير أنت ، وبصيغة المبالغة «علّام» وبصيغة الجمع للفظ «الغيوب» فهو لم يقل : إنك أنت عالم الغيب وإنما قال ـ كما حكى القرآن عنه ـ (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) بكل أنواعها ،
__________________
(١) تفسير الآلوسى ج ٧ ص ٦٥