وقال ابن كثير : قوله ـ تعالى ـ : (فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) أى : فألقينا بينهم العداوة والبغضاء لبعضهم بعضا ، ولا يزالون كذلك إلى يوم قيام الساعة. وكذلك طوائف النصارى على اختلاف أجناسهم لا يزالون متباغضين متعادين يكفر بعضهم بعضا ، ويلعن بعضهم بعضا ، فكل فرقة تحرم الأخرى ولا تدعها تلج معبدها. فالملكانية تكفر اليعقوبية ، وكذلك الآخرون. وكذلك النسطورية الآريوسية كل طائفة تكفر الأخرى في هذه الدنيا ويوم يقوم الأشهاد» (١).
والذي تطمئن إليه النفس أن قوله ـ تعالى ـ (فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) يشمل ما بين اليهود والنصارى من عداوة ظاهرة مستحكمة يراها الرائي في كل العصور والأزمان ، كما يشمل ما بين فرق النصارى من اختلاف وتباغض وتقاتل بسبب عقائدهم الزائغة وأهوائهم الفاسدة. وما نراه من تصارع وتقاتل بين طائفتى الكاثوليك والبروستانت في. إيرلاندا وفي غيرها خير شاهد على صدق القرآن الكريم ، وأنه من عند الله ـ عزوجل ـ وقوله ـ تعالى : (وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) بيان لسوء عاقبتهم في الآخرة بعد بيان ما حكم به عليه في الدنيا من عداوة وبغضاء. و (سَوْفَ) هنا لتأكيد الخبر وتقويته وبيان أنه وإن تأخر آت لا محالة.
والمعنى : لقد ألقينا العداوة والبغضاء بين هذه الطوائف الضالة وسوف يخبرهم الله في الآخرة بما كانوا يصنعونه من كتمان الحق ، ومخالفة للرسل ، وانغماس في الباطل ، وسيجازيهم على كل ذلك بما يستحقون من عذاب شديد.
وبعد أن بين ـ سبحانه ـ بعض الرذائل التي انغمس فيها اليهود والنصارى. وجه إليهم نداء دعاهم فيه إلى الدخول في الدين الحق الذي جاء به محمد صلىاللهعليهوسلم فقال : تعالى :
(يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ
__________________
(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٣.