الميل إلى غير الله في مجلس مراقبة الله ، ناظرين من الله إلى الله وراضين بقضاء الله في مراد الله ، صابرين في بلاء الله محتسبين لله في مجاهدة أنفسهم ، لا ينقضون عهود ميثاق الأزل إلى الأجل ، أي : الذين وصفهم الله تعالى بإحضار نفوسهم عن التعرض إلى غير ذلك بالرمز والإشارة ، وسؤال غيره على أحوالهم وصونا لأسرارهم ومراعاة لحقيقة فقرهم ، وعفة في مجاهدتهم خدمة أهل الدنيا ببذل المال والأنفس ليلا ونهارا (لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ) أي : لا يتفرقون عن مجالستهم ومراقبتهم من قوة الحال ، وغلبة الذكر عليهم واشتغالهم بمشاهدة سيدهم وشدة محبتهم وكثرة عشقهم وحقيقة يقينهم بربهم لطلب معاشهم وحوائجهم ؛ لأنه قد غلب عليهم صحة التوكل وحسن الرضا وحقيقة التسليم وهم كانوا يفوضون جميع أمورهم إلى الله ، ويسكنون بوعده ؛ لأنه منّان بأوليائه ، وأهل طاعته أهل الثناء والمغفرة بحفظ أوقاتهم عن الخطرات والزلات (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) لأنهم لا يتملقون عند أبناء الدنيا بكلام اللين وإظهار التقشف ، ولا يظهرون أحوالهم لأجل الرياء والسمعة شفقة بأحوالهم مع شدة افتقارهم إلى الله.
وصف الجاهل بقلة المعرفة بأحوالهم ؛ لأن العالم يعرفهم بنور العلم والإيمان (تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ) بشارة مشاهدة الحق في وجوههم ، وبهجة نور المعرفة في قلوبهم ؛ لأن الله تعالى أسبل على وجوههم نقاب سناء الصفات ، وألبس جباههم نور جمال الذات أي : تعرفهم بهذه الصفات ؛ لأنهم الأتقياء الأخفياء الذين لا يركنون إلى الخلق بسبب الدنيا وزينتها ولذتها ، وأنهم من أهل المحبة الذين يبتلون بأنواع البلايا هم صابرون محتسبون لله وفي الله ، (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) لا ينبسطون إلى أهل الدنيا ولا يبتغون حظوظ أنفسهم من الخلق ، ولكن ينبسطون إلى الإخوان في الله تلطفا بهم وتعطفا عن الميل إلى مألوفات الطبع والهوى.
وأيضا : (لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) وصف الله تبارك وتعالى أهل حقائق المعرفة ، ونعتهم بالفقر أي أنهم حبسوا في صحاري التوحيد ، وتيه التقديس بأصفار التحير ، وألزموهم تراكم لطمات بحار الوحدانية ، وأغرقوهم في سر العظمة مفتقرين من عين التلوين إلى عين التمكين ، لا يستطيعون من ثقل أحمالهم مسيرا من الحيرة إلى رؤية المنة وكشف القربة في أرض الديمومية ، والطيران عن أشكال الحدوثية في أسرار الهوية القدمية.
وأن الله تعالى كشف لهم عن بساط العظمة ، وأراهم نقوش صور غيب الغيب التي التبس الحق بها بنعت الرضا عن العشاق فيتحيرون بين الرسم والصرف تحيرا استأصل لباس الحدوثية عن نفس أرواحهم ، فإذا برزوا بهذه السمات من بطنان عجائب الغيب يحسبهم