صبيان الملكوت أنهم في جمال بسط الديمومية ، ولا يعرفون شأن قبضهم ؛ لأنهم في طيب مزمار الإحسان يحتجبون به عن إدراك أحوال المحترقين بنيران الكبرياء ، لكن يعرف من غيب وراء الوراء وقطع حجب رسوم العبودية والربوبية أنهم مفتقرون إلى مشاهدة حسن الحسن ، ومكاشفة قدم القدم والجمع بنعت الاتحاد ، لا يظهرون مع عجزهم أحوال تحيرهم واحتياجهم لأهل التمكين غيرة على أهل الانبساط لكن يحترقون في الباطن ويستبشرون في الظاهر ، هؤلاء مرضى المحبة وأسرار المعرفة ينعتهم الله مقام التفرقة بنعت الجمع ، وقيل : (أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) الذين وقفوا مع الله بهممهم فلم يرجعوا منه إلى غيره ، وقيل : (لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ) (١) أي : لا يتحركون لطلب الأرزاق.
وقال محمد بن الفضل في هذه الآية : يمنعهم علو همتهم عن رفع حوائجهم إلى مولاهم.
وقال ابن عطاء : يحسبهم الجاهل بحالهم أغنياء في الظاهر ، وهم أشد الناس افتقارا إلى الله تعالى في الظاهر ، فاستغناؤه في الباطن.
وقيل في (تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ) : أي في تطييب قلوبهم وحسن حالهم وبشاشة وجوههم ونور أسرارهم وجولان أرواحهم في ملكوت ربهم.
وقال سهل : إن الله عزوجل وصف الفقراء بصفة القدم من حال سؤال الافتقار واللجوء إليه ووصفهم بالرضا والقنوع لا استطاعة لهم إلا به ومنه ، ولا قوة لهم من حولهم وقوتهم.
قد نزع الله منهم ركون قلوبهم إلى غيره ، والمساكين راجعون إلى الأسباب كما وصفهم الله مساكين يعملون في البحر فردّهم إلى حال السكون إلى الأسباب.
لذلك قال بعضهم : الفقر عز والمسكنة ذل.
وقال عمرو المكي : من أحب شيئا كان به ضنينا ، من حب شيئا كان به أنيسا ، ومن أحب شيئا كان له أسيرا.
وقال النصر آبادي : الفقير ينبغي أن يكون له قناعة وعفة ، ويعتبر بالقناعة ويرتدي بالعفة ؛ لأن النبي صلىاللهعليهوسلم وسلم قال : «القناعة مال لا ينفد» (٢) ، فإذا كان الفقر بهذه الصفة دخل في
__________________
(١) أي : ذهابا في الأرض للتجارة أو للأسباب ، بل شغلهم الجهاد والتبتل للعبادة عن الأسباب ، وهم أهل الصّفّة ، كانوا نحوا من أربعمائة من فقراء المهاجرين ، يسكنون صفة المسجد ، يستغرقون أوقاتهم في العلم والذكر والعبادة ، وكانوا يخرجون في كل سرية بعثها رسول الله صلىاللهعليهوسلم. البحر المديد (١ / ٢٣٢).
(٢) رواه الطبراني في «الأوسط» (٧ / ٨٤) ، والديلمي في «الفردوس بمأثور الخطاب» (٣ / ٢٣٦).