وقوله تعالى : (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، التفكر في خلق السماوات والأرض على معنيين :
الأول : طلب غيبة القلوب في الغيوب التي هي كنوز أنوار الصفات التي تبرز منها مقادير الخلق ، يتفكرون في محض الربوبية ، وإرادتهم إدراك أنوار القدرة التي تبلغ الشاهد إلى المشهود بحقيقة رؤية الوصف.
والثاني : جولان القلوب بنعت التفكر في إبداع الملك في الملك ، طلب مشاهدة المالك في الملك ، الأول منزل التوحيد ، والآخر منزل الجمع.
قال بعضهم : هو رؤية الله قبل التفكر في الأشياء ، وواسطة التفكر أن ترى الأشياء قائمة بالله ، وفساد التفكر أن ترى الأشياء فيستدل بها على الله ، وقبل ذلك بالتفكر في صفات الحق لا في المحدثات ، ولو كان ذلك على المحدثات لقال : ويتفكرون في السماوات.
وقوله تعالى : (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) تطرقوا من مقام الذكر إلى مقام التفكر في خلق الكون ، استرواحا من الاحتراق بنور الذكر بمروحة صفاء الفعل ، لكيلا يفنوا في مشاهدة المذكور ، وذلك غلبة المريدين في طلب الرفاهية ، وركوب الرخص ، ألا ترى كيف احتجبوا بالفعل عن الفاعل.
وأيضا : لمّا استحلوا رؤية الفاعل في الفعل ، ووجدوا حكم الأزلية بنعت التجلي في مرآة الفعل ، قالوا : (ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) أرادوا وجود الكون مرآة التجلّي المكون في مقام التفكر بعد إرادتهم زواله في صفاء الذكر ، غيرة على الغير ، وذلك قوله : (رَبَّنا ما خَلَقْتَ) ، وعلة ذلك أن الله سبحانه عرف مكان ضعف الخلق عن حمل مشاهدته ، صرفا فأظهر الكون ليتطرقوا بالوسيلة إليه ، كيلا يحترقوا في أول بوادي ظهور العظمة ، وسطوات الكبرياء رحمة وشفقة.
قال فارس : الحكمة في إظهار الكون إظهار حقائق حكمته بالفعل الحكيمي.
قال الخواص : أمرهم بالتفكر في خلق السماوات والأرض ، ثم قطعهم عن ذلك بقوله : (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) دلّهم عليها ، ثم حثّهم على الرجوع إليه ؛ لكيلا يقفوا معها ، وينقطعوا عن مشاهدته ، والإقبال عليه.
وقوله تعالى : (سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ) لمّا نزل القوم من مقام الذكر الخالص بغير الوسائط إلى مقام التفكر في الأفعال والآيات ، ووقعوا في رؤية الخلق أدركوا مافاتهم من خوالص الذكر بقولهم : (سُبْحانَكَ) أي : أنت منزّه عن كل ذكر وفكر ، وكل خاطر وإشارة