وقد وقع لي قول بعد أقوال أشياخ المعرفة زيادة على قولي في الآية قبل أقوالهم ، أنّ الله سبحانه أعلمنا في هذه الآية بيان أربع مراتب من عظائم مقامات أهل الكمال في التوحيد :
الأول : مقام المعرفة ، والثاني : مقام النكرة ، والثالث : مقام الفناء ، والرابع : مقام البقاء.
وأضاف الصبر إلى المعرفة ، والمصابرة إلى النكرة ، المرابطة (١) إلى الفناء ، والفلاح إلى البقاء ، أي : اصبروا في معرفتي حيث أعرفكم نفسي بنفسي ، فإن في عرفاني مباشرة السر بالسر ، وتخلق الصفة بالصفة ، واتحاد الذات بالذات.
أي : إذا كنتم في مقام الاتحاد بإدراك ربوبيتي ، اصبروا بكتمان دعوى الربوبية فإنكم في مقام المكر ، وأنتم لا تعلمون ، وإذا وقعتهم في بحار ألوهيتي ، واختلط بكم بحار السرمدية والأزلية ، ولا تعرفون طرق معرفتي بعد وقوعكم في نكرتي ، ونكرتي جهلكم بي بعد معرفتكم بي ؛ حيث امتزج ظلام القهريات بأنوار اللطفيات.
صابروا هناك لكي تدركونني فتربحون بكم ذوق وصالي ، وسكر مشاهدتي ، وصحو صحبتي من غمرات النكرات ، فإنكم في النكرة على محل غيرتي عليّ لكم ، وإذا انكشف لكم سطوات عظمة قدمي ، وبرزت أنوار أزليتي ، وأنتم في محل الاضمحلال والفناء عنكم ، ورابطوا أسراركم في أنواري ؛ كيلا تتلاشوا بي عني فيفوتكم إدراك لطائف الغيبية ، ووضوح أسرار الأزلية ، فإذا استفهم في الفناء عنكم ، ولقيتم بي عليّ تفلحون بإسبال بقائي عليكم حتى تخرجون من بحار الفناء بشرط البقاء ، فإذا صرتم باقين ببقائي ، فزتم عن ورطة الفناء بعد ذلك ، ولا تجري عليكم أحكام التلوين بعد الاستقامة والتمكين.
سورة النساء
بسم الله الرّحمن الرّحيم
(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (١) وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (٢) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ
__________________
(١) قال ابن عجيبة : المرابطة أن يربط هؤلاء خيولهم ، وهؤلاء خيولهم ، إرصادا لمن حاربهم ، ثم أطلق على كل مقيم في ثغر يدفع عمن وراءه ، وإن لم يكن له مركب ، إذا كان بنية الدفع عن المسلمين كان بأهله أو وحده ، المدار على خلوص النية [البحر المديد (١ / ٣٨٦)].