قوله تعالى : (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ) أخبر تعالى عن الصفتين القديمتين الصادرتين من الأزل للعموم والخصوص من الحدثان ، بفنائه استغنى عن طاعة المطيعين ، وبرحمته رحم كل العاصين ، حين لا ينفعه طاعة المطيعين ، ولا يضره عصيان العاصين ، ملابسة أقطار الحدثان من لطائف الإنعام من بحار رحمته مطر لطفه على الأنعام ، غناه أغنى العارفين عن الكونين ، ورحمته شملت كل العالمين ، فقال : سماع غناه يوجب محوهم ، وسماع رحمته يوجب صحوهم.
وقال الأستاذ : (الْغَنِيُ) يشير إلى غيره ، والرحمة تشير إلى لطفه ، أخبرهم بقوله : (الْغَنِيُ) عن جلاله ، وبقوله : (ذُو الرَّحْمَةِ) عن أفضاله ، فبجلاله يكاشفهم فيفنيهم ، وبأفضاله يلاطفهم فيحييهم.
قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ) إن لله سبحانه في قلوب العارفين جنان ورد المشاهدات وعبر المكاشفات ، وزهر الجمال ، ونور الوصال وياسمين المودة ، ورياحين الزلفى ، فبعضها معروشات بكرم حقائق معاملاتها وحالاتها ، بحيث تلاصق ثمراتها إلى حضرة القديم ، وأنوار معارفها تسطع إلى سماء اليقين ؛ لقوله سبحانه : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر : ١٠] ، وذلك من جذب الله صميمها وأغصان أنوارها إلى قربه بقوة أزلية في إرفاعها إليه ، ويضع ثمراتها غير معروشة لبقائها على أشجار الهموم والفهوم ؛ ليتناولها كل طالب وكل مريد صادق ، تحلها هو الإيمان الثابت في أرض القلب ، وفرعها في عالم الملكوت ، قال تعالى : (أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ) [إبراهيم : ٢٤] ، وزروعها تنبت فيها من بذر المحبة ، وهي مختلفة ثمراتها ، فمنها الأنس ، ومنها القدس ، ومنها الشوق ، ومنها العشق ، ومنها الخوف ، ومنها الرجاء ، ومنها العصمة ، ومنها المعرفة ، ومنها التوحيد ، ومنها التجريد ، وزيتونها إخلاصها ، تنبت من أنس الوصال بدهن نور الجمال ، وصبغ صبح الجلال متشابها في لباس الالتباس ، منبتها في منظر نور التجلي.
قال تعالى في وصفها : (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ) [النور : ٥٣] ، ووصفها أيضا بقوله : (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) [المؤمنون : ٢٠] ، ومن هاهنا خاطب كليمه يقوله : (نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ) [القصص : ٣٠] ، ورمانها شجرة الإلهام الذي ثمره