حكمة الحقائق ولطائف الدقائق.
(مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) مقاماتها بعضها متدانية من بعضها ، وبعضها متباعدة من بعضها ؛ لأن بعضها معاملات وبعضها حالات واردات ، وبعضها مكاشفات ، وبعضها أسرار ، وبعضها أنوار ، فخاطبهم رب هذه البساتين بأن يستمتعوا بثمراتها ومنافعها لزيادة قوة الإيقان ونور الإيمان بقوله : (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ).
ثم أمرهم بأن يعطوا زكاة هذه النعم المتواترة إلى المريدين الطالبين بإخراج لطائفها بنعت البيان على لسان العلم ، ونشر فضائل المقامات والحالات بقوله : (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) أي : يوم أكملت الأحوال ، واستقيمت الأعمال بنعت التمكين والاستقامة.
ثم أمرهم بألا يبخلوا ، ولا يكتموا عن أهلها هذه النعم الغيبية المستفادة من لطف الله العزيز بقوله : (وَلا تُسْرِفُوا) فإن كتمانهم عن أهلها ظلم وإسراف (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (١) يعني : من كتمانها يكون محتجبا بعدها ، ما هذه البساتين ، ما أطيب ثمراتها! وما ألطف زهراتها! وما أعذب أنهارها! وما أشرق شموسها! وما أنور أقمارها! وما أزهر خضرتها! وما أكرم نضرتها! وما أحلى أصوات ألحان بلابل أشجارها حين ترنّمت بسبحاتي : وأنا الحق.
قال الأستاذ في تفسير هذه الآية : بساتين القلوب أتمّ من جنان الظاهر ، فأزهار القلوب مونقة ، وشموس الأسرار مشرقة ، وأنهار المعرفة زاخرة.
وقال : أما إخراج البعض فبيانه على لسان العلم وشهود المنعم في عين النعمة أتمّ من الشكر على وجود النعمة.
(وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٤٢) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٤٣) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
__________________
(١) الإسراف : ما تناولته لك ، ولو بقدر سمسمة ، ويقال : الإسراف هو التعدي عن حدّ الاضطرار فيما يتضمن نصيبا لك أو حظّا بأي وجه كان [تفسير القشيري (٢ / ٣٦٣)].