فيقول : إني أرى ما لا يرون من عجائب مكاشفة الملكوت له ، وأخاف الله أن يجعلني في جنس مجاهدته أسيرا بأسر هيبته ، وأيضا يوسوس نفس الولي بأنها تغلب بشهواتها عليه بإعانته.
فلمّا رأى صولة جدّه ، واستعانته بربه ، ورميه إليها بأنفاس محبّته يفر منه ، ويترك النفس أسيرة في يده ، ويقول : إني برئ منكم ، إني أرى ما لا ترون أي : أخاف الله.
بيّن الله سبحانه أن الشيطان يرى ما لا يرى الآدمي من أحكام الملكوت بعد ظهورها في هذا العالم ، وذلك أنه رأى قبل هذا العالم عجائب الملكوت ، ويريه الله أنوار المؤمنين بتفريقه عنهم ، وقوله : (إِنِّي أَخافُ اللهَ) أي : إني أخاف عذاب الله ، وذلك بعد رؤية البأس ، ولا ينفع ذلك ، ولو كان متحقّقا في خوفه ما عصى الله طرفة عين.
قال الواسطيّ : ترك الذنوب على ضروب ، منهم من تركها حياء من نعمه كيوسف عليهالسلام ، ومنهم من تركها خوفا كإبليس ، حين قال تعالى : (فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ) (١).
(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٥٣) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (٥٤) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٥٥) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (٥٦) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٥٧) وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (٥٨) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (٥٩))
قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ).
أخبر سبحانه عن مقام امتحان القوم حيث أراهم مقامات رفيعة ، وبلّغهم إلى بعضها ، ولم يعرّ شفاههم حقائقها ، ولم يوفّقهم لأداء حقوقها ، وشكر مراتبها ، وأبقاهم في ذلك برهة من الدهر ، ثم حجبهم عنها قليلا بنعت الاستدراج ، فبقوا مغيّبين عن ملابس أنوار الملكوت ،
__________________
(١) أي : إلى عالم الزور والتفت إلى ما سوى الحق وجعل سعيه هباء منثورا.