العبودية ، والإعراض عما سوى الحق في مقام المعرفة.
وقال بعضهم : الوفاء بالعهد لزوم الحدود ، والرضا بالموجود ، والصبر عن المفقود.
(وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ) أي : الصابرين في دفع صولة صدمات النفوس عند معارضتها كشوف الحقائق ، وخرّها عند إلقاء الخطرات في ديوان المكاشفات بنعت ترغيبها وترهيبها ، وعند تطرق طوارقات القهر أبواب خزائن القلب لتشددها بحثالة عوارض البشرية ، والسكون في دفع الخطرات صبرا ، خصّ به الصادقون في طلب مرضاة الحق عند نزول حجار البليات من منجنيق الامتحان.
(وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) (١) أي : لكم في قتل النفوس بعد خروجهما على القلوب اقتصاصا حياة أرواح المقدسة ، فإذا شرعتم في أخذ ديات جنايات النفوس تفوزون من مهلكات القهر.
قال الجنيد : للصابرين ثلاث علامات تعرف في نفسه ، الأول : ضبط نفسه عند وجود النفس حظها ، والثاني : الدخول في الطاعات عند مطالبة النفس بالتخلف والكسل ، والثالث : سكون القلب عند نزول الحكم.
(كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (١٨٠) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٨١) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ
__________________
(١) أي في هذا الجنس من الحكم الذي هو القصاص حياة عظيمة لأنهم كانوا يقتلون بالواحد الجماعة كما قتل مهلهل بن ربيعة بأخيه كليب حتى كاد يفنى بكر بن وائل وكان يقتل بالمقتول غير قاتله فتثور الفتنة ويقع فيما بينهم التشاجر والهرج والمرج وارتفاع الأمن فلما جاء الإسلام بشرع القصاص كانت فيه أي حياة لأنه إذا علم القاتل أنه يقتل إذا قتل لا يقدم على القتل وإذا قتل فقتل ارتدع غيره فكان القصاص سبب حياة نفسين أو أكثر وهو كلام في غاية الفصاحة والبلاغة من حيث جعل الشيء محل ضده فإن ضدية شيء لآخر تستلزم أن يكون تحقق أحدهما رافعا للآخر والقصاص لاستلزامه ارتفاع الحياة ضد لها وقد جعل ظرفا لها تشبيها له بالظرف الحقيقي من حيث إن المظروف إذا حواه الظرف لا يصيبه ما يخل به ويفسده ولا هو يتفرق ويتلاشى بنفسه كذلك القصاص يحمى الحياة من الآفات فكان من هذا الوجه بمنزلة الظرف لها ولا شك فيه إذ جعل الضد حاميا لضده اعتبار لطيف في غاية الحسن والغرابة التي هي من نكات البلاغة وطرقها (يا أولى الألباب) أي ذي العقول الخالصة من شوب الأوهام ناداهم للتأمل في حكمة القصاص من استبقاء الأرواح وحفظ النفوس.