وقبولهم بين الخلق بإظهارهم الفراسات ، وحجبهم بها عن درجات المشاهدات ، ورؤية ما سبق للأولياء من الرعايات والعنايات ، (وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) أي : يتهاونون أهل المواجيد الذين سبقوا بنور العصمة ، وغابوا في مشاهدة مولاهم عن المكر والخديعة.
وقال جعفر : زيّن للذين جحدوا التوكل زينة الحياة الدنيا حتى جمعوها ، وافتخروا بها ، (وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) من الذين توكلوا على الله في جميع أمورهم ، ونبذوا تدابيرهم وراء ظهورهم ، فأعرضوا عنها وهم الفقراء الصبر الراضون.
(كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) يعني في ميثاق الأول حين خاطبهم الحق سبحانه وتعالى جل سلطانه بتعريف نفسه لهم ، حيث قال : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) [الأعراف : ١٧٢] ، كانوا أمة واحدة في إقرارهم برؤية خالقهم ، وإلزام عبوديته على أنفسهم لمّا رأوا من عظم برهانه ، وشواهد سلطانه ، وما سمعوا من عجائب كلامه ، وما أدركوا من أنوار قربه وصفاته وذلك الجمعية قبل أن يبتليهم الله بالعبودية ، فلمّا اختبرهم ببلايا العبودية إلى الدنيا ، فتفرقوا جميعا ، فأهل الصفوة ساعدهم التوفيق ، فبقوا على المشاهدة والقربة ، وإدراك أنوار الصفوة ، ثابتين في دفع حطام الدنيا عن مجالس أسرارهم مع سيدهم ، مستقيمين في خدمته بلا طلب الأعواض من الكرامات ، مقتصدين في سلوك المعرفة والمحبة ، فأنزل الله سكينته في قلوبهم ، ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ، فلا جرم ما زاغوا عن طريق الاستقامة ، وما زاغوا عن مشاهدة الحبيب إلى حضرة الدنيا وشهوتها ، وما باعوا كرامة الحق بالدنيا الدنية ، (رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) [الأحزاب : ٢٣] ، وأما أهل الخذلان فأوبقهم الحق في ظلمه هواء نفوسهم حتى استأثروا الدنيا على الآخرة ، ونسوا عهد الله ، ونزلوا على مراد الهوى ، وتركوا نعيم الرضا ، ومالوا عن طريق الهدى إلى مضلة الضلال ودول الجهال ، وأيضا كانوا بعد كونهم من العدم جملة في غيبة من الحق قبل خطاب الحق معهم ، وكشف قربه لهم فإذا كشف الله عنهم حجب الإنسانية ، وأراهم مشاهدة القربة ، فتفرقوا جميعا في شعب المعارف والكواشف ، فبعضهم صادقوا حقائق المقامات فوقفوا بها على شرط العبودية ، وبعضهم صادقوا لطائف الحالات فبقوا فيها متنعمين بمشاهدة الربوبية ، وبعضهم نالوا خصائص الكرامات والمعجزات فشاهدوها بشرط أداء الأمانة ، وبعضهم أدركوا صرف المشاهدة من الحق جل كبرياؤه فتاهوا في وادي العظمة ، وطاروا في هواء الهوية ، وساروا في فقار الديمومية ، وأما أهل الحرمان فصادقوا في أول نهوضهم من زمرة الوحدة مهالك القهريات ، فغابوا في شعاب الضلالات ، فبعضهم تهودوا ، وبعضهم تنصروا ، وبعضهم تزندقوا ، وبهذا جف القلم إلى يوم ليس لهم في الإيمان