ففي هذا الحديث تعذيب العامة بذنوب الخاصة.
قال علماؤنا : فالفتنة إذا عمت هلك الكل وذلك عند ظهور المعاصي ، وانتشار المنكر وعدم التغيير. وإذا لم تغير وجب على المؤمنين المنكرين لها بقلوبهم هجران تلك البلدة والهرب منها.
روى ابن وهب عن مالك قال : تهجر الأرض التي يصنع فيها المنكر جهارا ولا يستقر فيها.
واحتج بصنيع أبى الدرداء في خروجه عن أرض معاوية حين أعلن بالربا ، فأجاز بيع سقاية الذهب بأكثر من وزنها.
فإن قيل : فقد قال الله ـ تعالى ـ (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) وقال : (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ). وهذا يوجب ألا يؤخذ أحد بذنب أحد ، وإنما تتعلق العقوبة بصاحب الذنب؟
فالجواب أن الناس إذا تظاهروا بالمنكر فمن الفرض على كل من رآه أن يغيره ، فإذا سكت عليه فكلهم عاص ؛ هذا بفعله وهذا برضاه ، وقد جعل الله في حكمه الراضي بمنزلة العامل ؛ فانتظم في العقوبة (١).
وقال بعض العلماء : وذكر القسطلاني «أن علامة الرضا بالمنكر عدم التألم من الخلل الذي يقع في الدين بفعل المعاصي ، فلا يتحقق كون الإنسان كارها له ، إلا إذا تألم للخلل الذي يقع في الدين ، كما يتألم ويتوجع لفقد ماله أو ولده. فكل من لم يكن بهذه الحالة ، فهو راض بالمنكر ، فتعمه العقوبة والمصيبة بهذا الاعتبار (٢).
وبعد أن أمر ـ سبحانه ـ المؤمنين بالاستجابة له ونهاهم عن الوقوع في المعاصي .. أخذ في تذكيرهم بجانب من فضله عليهم فقال : (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ ...).
أى : (اذْكُرُوا) يا معشر المؤمنين (إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ) أى : وقت أن كنتم قلة مستضعفة في أرض مكة تحت أيدى كفار قريش. أو في أرض الجزيرة العربية حيث كانت الدولة لغيركم من الفرس والروم.
وقوله : (تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ) أى : تخافون أن يأخذكم أعداؤكم أخذا سريعا. لقوتهم وضعفكم. يقال خطفه ـ من باب تعب ـ أى : استلبه بسرعة.
__________________
(١) تفسير القرطبي ج ٧ ص ٣٩١.
(٢) تفسير القاسمى ج ٨ ص ٢٩٧٧.