إنها صورة ساخرة ، وهي في الوقت ذاته صورة مفزعة .. فأين هؤلاء البشر الضعاف المهازيل ، من تلك القدرة القادرة .. قدرة الله الجبار ، القاهر فوق عباده ، الغالب على أمره ، وهو بكل شيء محيط؟
والتعبير القرآنى يرسم الصورة على طريقة القرآن الفريدة في التصوير ، فيهز بها القلوب ، ويحرك بها أعماق الشعور» (١).
ثم حكى القرآن بعد ذلك جانبا من الدعاوى الكاذبة التي تفوه بها المشركون فقال ـ تعالى ـ (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا ، إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ).
وقد ذكر كثير من المفسرين أن القائل لهذا القول : النضر بن الحارث ؛ فإنه كان قد ذهب إلى بلاد فارس فأحضر منها قصصا عن ملوكهم .. ولما قدم مكة ووجد رسول الله صلىاللهعليهوسلم يتلو القرآن قال للمشركين : لو شئت لقلت مثل هذا ، وكان صلىاللهعليهوسلم إذا قام من مجلس ، جاء بعده النضر فجلس فيه وحدث المشركين بأخبار ملوك الفرس والروم ، وغيرهم ثم قال : أينا أحسن قصصا؟ أنا أو محمد؟ وقد أمكن الله منه يوم بدر ، فقد أسره المقداد بن عمرو ، فأمر النبي صلىاللهعليهوسلم بضرب عنقه وقال فيه : «إنه كان يقول في كتاب الله ـ عزوجل ـ ما يقول» (٢).
وأسند ـ سبحانه ـ قول النضر إلى جميع المشركين ، لأنهم كانوا راضين بقوله ، ولأنه كان من زعمائهم الذين يقودونهم إلى طريق الغواية.
والأساطير ـ كما يقول ابن جرير ـ : جمع أسطر ، وهو جمع الجمع ، لأن واحد الأسطر سطر. ثم يجمع السطر : أسطر وسطور ، ثم يجمع الأسطر أساطير وأساطر. وقد كان بعض أهل العربية يقول : واحد الأساطير : أسطورة ـ كأحاديث وأحدوثة (٣).
والمراد بها : تلك القصص والحكايات التي كتبها الكاتبون عن القدامى ، والتي يغلب عليها طابع الخرافة والتخيلات التي لا حقيقة لها.
والمعنى : أن هؤلاء المشركين قد بلغ بهم الكذب والتمادي في الطغيان ، أنهم كانوا إذا تتلى عليهم آيات الله (قالُوا) بصفاقة ووقاحة : (قَدْ سَمِعْنا) أى : قد سمعنا ما قرأته علينا ـ يا محمد ـ ووعيناه (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) أى لو نشاء لقلنا مثل هذا القرآن الذي تتلوه علينا يا محمد وما هو إلا من قصص الأولين وحكاياتهم التي سطرها بعضهم عنهم وليس من عند الله ـ تعالى ـ
__________________
(١) من «في ظلال القرآن» ج ٩ ص ٨٤٤ للأستاذ سيد قطب.
(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٠٤ بتصرف وتلخيص.
(٣) تفسير ابن جرير ج ٩ ص ٢٣١.